العودة   منتديات الدولى > المنتديات الترفيهية > نكت وطرائف وألغاز وحكم

نكت وطرائف وألغاز وحكم أجمل النكت والطرائف والألغاز المتنوعة وتنافس لحل الألغاز، أشهر حكم وأقوال المشاهير والعظماء


1 
مجدى سالم



فائت الأمثال مقاربة أدبية ساخرة فواز اللعبون


فائت الأمثال مقاربة أدبية ساخرة فواز اللعبون


على الضفاف



منذ ستة عشر قرناً والعرب يحترفون الكلمة، ويصوغون من جمالياتها فنونا، ومن فنونهم تلك أمثالهم الفائقة الدالة على مقدرتهم في التكثيف الدلالي، والاختزال اللفظي، ولذا حرص أوائل الأدباء والمهتمين على جمع بعض شتاتها، فأثبتوها في مصنفات خاصة، وقرنوها بالشروح، وأردفوا ما أمكن منها بخبره وقصته.

ولي في هذا المجموع المحدود مقاربة مختلَقة تقتفي الشكل السالف، وتحاذي مضمونه التوجيهي، بلغة أكثر وضوحا، وصياغات إخالها سَلِسة، وتضيف إليه مسحة فكاهة وسخرية، ولا أنكر أن هذه المسحة هي الركيزة التي عَلَّقْت عليها سائر الأهداف، وجَعَلْت منها الطُّعْم الذي يغري المتلقي باقتفائه.

والأمثال في مجموعها مستخلصة من مناحي حياتنا المعاصرة التي وجدت فيها ما هو جدير بالالتفات، وأنوه إلى أن هذه الأمثال ليست إلا مجرد انعكاس عن الواقع العام بحسنه وسيئه، ولا تعني في جملتها أنها انعكاس عن واقع خاص قريب، عدا المثل الأخير الذي مزجت فيه بين واقعين، ثم أودعت فيه إيضاحاً واعتذاراً لمن قد يلمس في بعض الأمثال انتقاداً لفئات، أو تزكية لأخرى.

وفي مجموعي هذا ثلاثون مثلاً تضمنت ثلاثين قصيدة بأبيات عدتها ثلاثمئة وخمسة وستون بيتا، وقد تفاوتت الأمثال طولاً وقصراً حسب سعة أخبارها، على أن معظمها متقارب نسبيّا، ورتَّبتها ترتيباً هجائيّاً آليّاً حسب بداية كل مثل، بغض النظر عن جذر أوله وزياداته.

وقد انتهجت منهجاً موحداً جرت عليه جملة من الأمثال القديمة؛ فابتدأت بنص المثل، ثم أوردت السياق الذي يُضرب فيه، مع شرح ما يحتاج إلى شرح من مفرداته، يلي ذلك أصل المثل المتضمِّن قصته المفتعلة، وختمته بأبيات شعرية يشتمل أحدها على المثل الوارد، وعلى هذا فالغالب أن أبطال الأمثال شعراء انتقاديون مثاليون، وهذا من الإمعان في الخيال والتجنيح.

ولما كانت مقاربتي انعكاساً عن التراث في شكله، وعن المعاصرة في مضمونها، آثرت أن أجمع بين أبرز خصائصهما الأدبية في الكتابة؛ فجئت بالمتن مسجوعا، وضبطته بالشكل ضبطاً تامّاً إلا في مواضع الوقف، ثم سقت ذلك كله في مضمار سهل ممهد، فلم أوغل في تعقيد لغوي ولا بياني، ولم أعتمد من الألفاظ والصياغات إلا ما خلته قريباً من متوسطي الثقافة والاطلاع.

وآمل أن تؤدي محاولتي هذه أهدافها التي جعلتها نصب عينيّ قبل البدء وأثناءه، وعلى رأس أهدافي تلك تقريب متميزي الناشئة، وغير المتخصصين في حقول الأدب إلى جميل التراث، وصالح المعاصرة، بطريقة حكائية محببة تغري بسخريتها ولذعها، إضافة إلى نقد بعض المظاهر الخاطئة التي تعم المجتمع العربي على وجه الخصوص.

ومن الإنصاف أن أشكر من وقف معي مقترِحاً ومراجِعاً ومشجِّعا، فلهم مني وافر الامتنان، وصادق العرفان، وأخص زميلي الكريم الدكتور: بدر بن محمد الراشد الذي انتشل هذا العمل من أخطاء الطباعة، وهنات اللغة، وأشكر أيضاً الزميلة الفاضلة والقاصة المبدعة الأستاذة: منى بنت إبراهيم المدي‍هش التي أسبغت على الأمثال سربالين من حس وحدس، فصممت الغلافين وقد أشربتهما الفكرة ظاهراً وباطنا، ولو امتد بي نشاط قادم لأفردتهما وغيرهما بمثل يكشف عن نُبلهم، ويُعَرِّي قصوري معهم، كما لن تفوتني الإشادة الطُّوْلَى بصاحب البذرة الأُوْلَى الذي أفدت منه ما لا أحصي منافعه في هذه الأمثال وغيرها، وهو فارس المقامات أبو محمد القاسم بن علي الحريري عليه من الله شآبيب الرضوان والرحمة.

بقي أن أقدم اعتذاري إلى من قد يستشعر في بعض الأمثال غمزاً أو إساءة، وأؤكد له ولغيره أنني محسوب –بشكل أو آخر– على معظم النماذج الواردة، وأنني في أحيان أخرى قد أتمثل نفسي الشخصية المنقودة، فأصوغ المثل وخبره على هذا الأساس، بعد أن أضفي عليه جوانب من التهويل والمبالغة.

هذا، وأحمد الله سبحانه، وأصلي وأسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه.



فواز بن عبدالعزيز اللعبون





فائت الأمثال مقاربة أدبية ساخرة فواز اللعبون




1 – «أَبْشَعُ مِنْ وُصُوْلِيّ»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ كَثُرَ نِفَاقُه، وانْحَطَّتْ في التَّمَلُّقِ أَخْلاقُه، ولَهُ في الـمُمَاذَقَةِ أُسْلُوْب، ومَاءُ وَجْهِهِ مَسْكُوْب، والوُصُوْلِيُّ قِرْدٌ في هَيْئةِ إنْسَان، يَتَسَلَّقُ إلى مَصَالِـحِهِ بِاللِّسَان، وهوَ أَيْضاً عَدِيْمُ الكَرَامَة، تَأْنَفُ مِنْ قَذَارَتِهِ القُمَامَة، يَبِيْعُ أُمَّهُ وأَبَاه، لِيَصِلَ إلى مَسْعَاه، تَـرَاهُ مُلْتَصِقاً بِالكُبَرَاء، وهُمْ يُعَامِلُوْنَهُ كَالـحِذَاء، وقَدْ يُصَاحِبُ عَامَّةَ النَّاس، ويَرْفَعُ ذَنـَبـاً يَظُنُّهُ الرَّاس، لا مَبْدَأَ يَـحْكُمُ تَصَرُّفَاتِه، ولا يَـرَى إلاّ تَـحْقِيْقَ ذَاتِه.

وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ مُوَظَّفاً عَظِيْمَ الـهِمَّة، يُؤَدِّي عَمَلَهُ بِإخْلاصٍ وذِمَّة، وكَانَ لَهُ زَمِيْلٌ كَثِيْرُ الإهْمَال، عَلَيْهِ مِنَ الدَّنَاءةِ سِرْبَال، لَـمْ يَـرَ أُمَّهُ مُنْذُ سِنِيْن، وأَبُوْهُ في دَارِ المُسِنِّيْن، وإذا رَأَى رَئيْسَهُ قَبَّلَ يَدَيْه، وكَادَ يَلْعَقُ بَاطِنَ رِجْلَيْه، ويُسْمِعُهُ كَلِمَاتِ التَّبْجِيْلِ والتَّعْظِيْم، ويَشْتُمُ أَمَامَهُ الرَّئيْسَ القَدِيْم، وإذا مَرِضَ ابْنُ الرَّئيْس، قَفَزَ بِهِ إلى (ابْنِ النَّفِيْس)، وإنْ فَرَغَتْ أُنْبُوْبَةُ غَازِه، حَمَلَها لَهُ عَلَى أَعْجَازِه، ومَتَى انْتَـهَتْ مُدَّةُ الرِّئاسَة، سَحَبَ عَلَيْهِ ذَيْلَ الـخَسَاسَة، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الرَّئيْسَ الـجَدِيْد، بِكُلِّ حَفَاوَةٍ وتَـمْجِيْد، ومَضَى عَلَى عَادَتِهِ المُخَادِعَة، فحَقَّقَ لَهُ رُؤسَاؤهُ مَطَامِعَه، وهوَ مَعَ ذَلِكَ وَاشٍ نَمَّام، ومَاهِرٌ في حَبْكِ الكَلام، سَبَقَ أَنْ وَشَى بِزَمِيْلِهِ الشَّرِيْف، فنُقِلَ مِنْ فَوْرِهِ إلى الأَرْشِيْف، وفَازَ هُوَ بِعُلُوِّ الرَّاتِبِ والمَرْتَـبَة، وحَظِيَ بِالانْتِدَابَاتِ ولَـمْ يَبْرَحْ مَكْتَـبَه.

فلَـمَّا رَأَى المُوَظَّفُ ضَيْعَةَ حَالِه، وكَيْفَ ظَفِرَ الوُصُوْلِيُّ بِآمَالِه، قَرَّرَ أَنْ يَتَخَلَّى عَنِ الإبَاء، وأَنْ يُنَازِعَ الوُصُوْلِيَّ الإنَاء، فطَرَحَ عَنْ كِبْرِيَائه الـخَجَل، واسْتَأْذَنَ عَلَى رَئيْسِهِ ودَخَل، فحَبَكَ لَهُ مِنَ التَّمْجِيْدِ عَبَاءات، وقَالَ فِيْهِ مِنَ الشِّعْرِ مُعَلَّقَات، ثُمَّ مَسَحَ حِذاءَهُ ولَـمَّعَه، وسَارَ إلى البَيْتِ مَعَه، فنَفَضَ عَنِ العَتَـبَاتِ الغُبَار، وانْحَنَى وامْتَطَاهُ الصِّغَار، فمَا مَرَّ أَكْثَرُ مِنْ أُسْبُوْع، إلاّ وأَمْرُهُ مُطَاعٌ مَسْمُوْع، ونَـهَضَتْ بِهِ رِجْلُهُ العَاثِرَة، وأَصْبَحَ مُدِيْراً في الدَّائرَة، فاسْتَدْعَى الوُصُوْلِيَّ وشَكَرَه، وأَعْطَاهُ مِنْ بُسْتَانِهِ ثَمَرَة، ثُمَّ نَادَى بِصَوْتٍ سَمِيْك، وأَمَرَ الوُصُوْلِيَّ بِالتَّدْلِيْك، وظَلَّ وَرَاءهُ يُدَلِّكُهُ بِرِفْق، ويَدْعُو لَهُ بِسَعَةِ الرِّزْق، وأَثْنَاءَ اسْتِرْخَائهِ اعْتَدَلَ واسْتَدَار، وأَنْشَدَ وهوَ عَلَى كُرْسِيِّهِ الدَّوَّار:



أَلاَ لِـلَّـهِ دَرِّي مِنْ نَبِيْهٍ *** تَغَانَمَ عُمْرَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ



ظَفِرْتُ مِنَ التَّمَلُّقِ بِالأَمَانِي *** فَـتَـبّاً لِلْكَرَامَةِ وَالإبَاءِ



وَكُنْتُ أَرَى الشُّمُوْخَ رِدَاءَ عِزٍّ *** فَعَرَّى كُلَّ سَوْءاتِي رِدَائي



لَيَالِيَ كُنْتُ مُـحْتَقَراً ضَئيْلاً *** وَفي الأَرْشِيْفِ مُطَّرَحاً وَنَائي



أُغَالِطُ وَهْمَ عِزَّتِيَ ادِّعَاءً *** فَمَاذا زَادَنِي وَهْمُ ادِّعَائي؟!



فَمَنْ يَصِفُ التَّمَلُّقَ بِانْحِطَاطٍ *** وَهَا أَنَذَا أُحَلِّقُ في السَّمَاءِ؟!



وَخَلْفِي سَافِلٌ أَحْرَزْتُ مِنْهُ *** فُنُوْنَ المَذْقِ وَالقَوْلِ الـهُرَاءِ



فَنِلْتُ بِهِ الذي لَـمْ يَسْتَطِعْهُ *** فَيَا لِـلَّـهِ مَا أَقْوَى دَهَائي



أُبَادِئُهُ السِّبَابَ وَلَيْسَ يُبْدِي *** لِوَقْعِ بَذَاءَتِي أَيَّ اسْتِيَاءِ



وَلَوْ أَعْمَلْتُ كَفِّي في قَفَاهُ *** لَبَادَرَنِي بِأَنْوَاعِ الدُّعَاءِ



فَأَسْأَلُكُمْ بِرَبِّي هَلْ رَأَيْتُمْ *** كَأَبْشَعَ مِنْ وُصُوْلِيٍّ وَرَائي؟






فائت الأمثال مقاربة أدبية ساخرة فواز اللعبون




2 – «أَبْطَأُ مِنْ قَاض»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنِ انْتَـهَجَ التَّسْوِيْف، وتَقَاعَسَ عَنْ حَمْلِ الثَّقِيْلِ والـخَفِيْف، وأَجَّلَ أَعْمَالَ النَّاسِ وأَعْمَالَه، وشَكَا مَنْ حَوْلَهُ إهْمَالَه، والقُضَاةُ رِجَال أُنِيْطَ بِـهِمُ العَدْل، وانْتُظِرَ مِنْهُمُ الـخَيْرُ والفَضْل، وقَدْ يُبْتَـلَى بِـبَعْضِهِمُ القَضَاء، فيُشَوِّهُوْنَ وَجْهَهُ الوَضَّاء، ولِذا قَالَ عَنْهُمُ المُصْطَفَى المُخْتَار:، قَاضٍ في الـجَنَّةِ وقَاضِيَانِ في النَّار، وهُمْ عُصْبَةٌ قَلِيْلَةُ الإحْسَاس، لا تُرَاعِي مَصَالِحَ النَّاس، يَبْدُوْنَ بِوُجُوْهٍ كَالِـحَة، ولِسِيْرَتِـهِمْ أَنْتَنُ رَائحَة، يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّكَبُّرُ والصَّلَف، ولَوْ وَزَنْتَـهُمْ لَـمْ يَزِنُوا الـخَزَف.



وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ شَابّاً رَاجَعَ المَحْكَمَة، لِيَرْفَعَ فِيْها عَلَى خَصْمِهِ مَظْلَمَة، وكَانَ خَصْمُهُ قَدْ نَـهَبَهُ مَالَه، وحِيْنَ وَاجَهَهُ أَنْكَرَ مَا لَه، ومَعَ الفَـتَى أَوْرَاقٌ تُثْبِتُ ما ادَّعَاه، وشُهُوْدٌ يُؤكِّدُوْنَ صِدْقَ دَعْوَاه، فأُحِيْلَ إلى قَاضٍ بَادِي البِطْنَة، مُقَطِّبِ الـجَبِيْنِ قَلِيْلِ الفِطْنَة، فلَـمَّا مَثَلَ أَمَامَه، وأَهْدَاهُ سَلامَه، رَمَقَهُ القَاضي بِعَيْنِ المُسْتَرِيْب، كَمَا يَرْمُقُ فَرِيْسَتَهُ الذِّيْب، ثُمَّ مَضَى يُـخْبِرُهُ عَنِ القَضِيَّة، وعَمَّا لاقَاهُ مِنْ أَذِيَّة، وقَدَّمَ لَهُ الأَوْرَاقَ والشُّهُوْد، ثُمَّ قَاطَعَهُ القَاضي بَعْدَ هُجُوْد، وقَالَ: كُفَّ عَنِ الكَلام، وأَحْضِرْ خَصْمَكَ بَعْدَ عَام، فحِيْنَ اسْتَكْثَرَ الفَـتَى المُدَّة، طَرَدَهُ القَاضي شَرَّ طِرْدَة، بَعْدَ أَنْ نَكَّلَ بِهِ كُلَّ تَنْكِيْل، وضَاعَفَ لَهُ مُدَّةَ التَّأْجِيْل، ثُمَّ أَقْبَلَ الفَـتَى في المَوْعِدِ المَضْرُوْب، ولَـمْ يَسْتَطِعْ إحْضَارَ خَصْمِهِ المَطْلُوْب، فأَمْهَلَهُ القَاضي عَامَيْنِ آخَرَيْن، فشَكَرَهُ ودَمْعُهُ يُسَابِقُ العَيْن، فصَاحَ القَاضي: أَتَسْخَرُ بِي يَا غُلام؟، مَوْعِدُكَ إذَنْ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَعْوَام.



ومَرَّتْ تِسْعَةُ أَعْوَامٍ وهوَ يُرَاجِع، ويَكْتُمُ في أَحْشَائهِ الأَسَى والمَوَاجِع، فلا هُوَ اسْتَطَاعَ إحْضَارَ خَصْمِه، ولا القَاضي هَمَّ بِإصْدَارِ حُكْمِه، وفي العَامِ العَاشِرِ مِنَ المُرَاجَعَات، اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ مَـجْمُوْعَةَ فُتُوَّات، واقْتَادَ خَصْمَهُ إلى القَاضي، ونَسِيَ كَرْبَ سِنِيْهِ المَوَاضي، ودَخَلَ مَـجْلِسَهُ الذي يَعْرِفُه، فوَجَدَ قَاضِياً آخَرَ يَـخْلِفُه، فسَأَلَهُ عَنْ قَاضِيْهِ في انْدِهَاش، فأَخْبَـرَهُ أَنَّهُ أُحِيْلَ إلى المَعَاش، وحِيْنَئذٍ بَادَرَ الـخَصْمُ اللَّئيْم، يَشْكُو لِلْقَاضي عُنْفَ الغَرِيْم، وأَنَّهُ قَادَهُ إلَيْهِ بِالقُوَّة، ولَـمْ يَسْلُكِ الطُّرُقَ المَرْجُوَّة، فمَا لَبِثَ القَاضي الـجَدِيْد، أَنْ كَبَّلَ الغَرِيْمَ بِالـحَدِيْد، وأَمَرَ الـحُجَّابَ بِحَبْسِهِ وجَلْدِه، حَتَّى يَشْكُوَ السَّوْطُ مِنْ جِلْدِه.



ولَـمَّا اسْتَوْفَى الرَّجُلُ كَامِلَ عُقُوْبَتِه، جَدَّدَ إلى القَاضي رَفْعَ خُصُوْمَتِه، فصَنَعَ بِهِ صَنِيْعَ القَاضي السَّابِق، وأَلْزَمَهُ بِإحْضَارِ خَصْمِهِ الآبِق، ومَرَّتْ عَلَيْهِ الشُّهُوْرُ والسَّنَوَات، وشَاخَ الرَّجُلُ وخَصْمُهُ مَات، فأَوْصَى بَنِيْهِ أَنْ يُطَالِبُوا وَرَثَـتَه، وأَنْ يُـحْضِرُوا أَوْرَاقَهُ ومِـحْبَـرَتَه، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِكِتَابَةِ مَا أَحْرَقَ أَعْمَاقَه، وأَمْلَى وهوَ عَلَى كُرْسِيِّ الإعَاقَة:



إلَى اللهِ أَشْكُو ضَعْفَ حَالِي وَحِيْلَتِي *** وَمَا ضَاعَ مِنْ مَالِي وَمِنْ عُمْرِيَ المَاضي



فَيَا لَيْتَ أَنِّي أَسْتَعِيْضُ بِمَا مَضَى *** مِنَ المَالِ عُمْراً لَسْتُ عَنْهُ بِمُعْتَاضِ



دُهُوْرٌ مِنَ الـخِذْلانِ مَرَّتْ بَطِيْئةً *** وَمَرَّ شَبَابِي بَيْنَـهَا مِثْلَ إيْمَاضِ



وَخَلَّفَنِي يَأْسِي كَسِيْفاً مُعَذَّباً *** أُعَانِي مَرَارَاتِي وَكَثْرَةَ أَمْرَاضي



سَعَيْتُ إلى حَقِّي فَمَاطَلَنِي بِهِ *** قُضَاةٌ أَرَوْنِي مِنْهُمُ كُلَّ إعْرَاضِ



فَعُدْتُ عَلَى الأَعْقَابِ مُضْطَرِبَ الـخُطَى *** وَهَا أَنَذَا نِضْوٌ أُلَـمْلِمُ أَنْقَاضي



ظَمِئْتُ فَأَغْرَانِي سَرَابٌ مِنَ المُنَى *** ظَـنَـنْتُ بِهِ رِيّاً، فَيَا طُوْلَ تَرْكَاضي!



فَلَمْ أَرْوِ مِنْ وِرْدِ القُضَاةِ حُشَاشَتِي *** ولَـمْ يَسْقِ مَاءُ العَدْلِ يَابِسَ أَحْوَاضي



صُدُوْدٌ وَتَسْوِيْفٌ وَطُوْلُ تَـجَهُّمٍ *** وَزَجْرٌ وَتَـهْدِيْدٌ وَنَظْرَةُ إبْغَاضِ



فَلِلَّهِ مَا لاقَيْتُ مِنْ سُوْءِ بَعْضِهِمْ! *** وَلِـلَّـهِ كَمْ يُبْلَى القَضَاءُ بَعَضَّاضِ!



يُرِيْكَ إذا مَا جِئْتَهُ كُلَّ جَفْوَةٍ *** كَأَنَّكَ مِنْهُ آمِلٌ بَعْضَ إقْرَاضِ



يُشَوِّهُ شَرْعَ اللهِ شَكْلاً وَمَـخْبَراً! *** وَيَزْهُو بِـبُـرْدٍ حَاسِرٍ عَنْهُ فَضْفَاضِ!



رَضِيْتُ بِشَرْعِ اللهِ حُكْماً مُنَـزَّهاً *** وَمَا أَنَا عَمَّنْ شَوَّهَ الشَّرْعَ بِالرَّاضي



فَلا تَعْذِلُوْنِي لَوْ تَـبَاطَـأَ بِي الأَسَى *** وَصِحْتُ بِأَعْلَى الصَّوْتِ: أَبْطَأُ مِنْ قَاضي








فائت الأمثال مقاربة أدبية ساخرة فواز اللعبون




3 – «أَبْلاَهُ مُسْتَوْصَفٌ خُصُوْصِيّ»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ في المُطْرِقِ السَّاهي، وقَدْ دَهَتْهُ مِنْ دُنْيَاهُ الدَّوَاهي، وصَارَ لِشِدَّةِ مَصَائبِه، يَنْتِفُ أَطْرَافَ شَوَارِبِه، وعَيْنَاهُ في المَدَى مُـحَمْلِقَـتَان، وعَلَى شَفَتِهِ يَتَدَلَّى اللِّسَان، والمُسْتَوْصَفُ الـخُصُوْصِيُّ مَصْيَدَة، ظَاهِرُهُ الرَّأْفَةُ وبَاطِنُهُ المَنْكَدَة، يَمْتَصُّ أَمْوَالَ المَسَاكِيْن، ويَقْطَعُ مِنْهُمْ بِسِكِّيْن، الدَّاخِلُ إلَيْهِ مَـخْدُوْع، والـخَارِجُ مِنْهُ مَفْجُوْع، يُظْهِرُ في الصَّحِيْحِ العِلَل، ويُدْنِي مِنَ العَلِيْلِ الأَجَل.



وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ رَجُلاً قَرَصَتْهُ نَمْلَة، ولَـمْ تُصِبْهُ مِنَ القَرْصَةِ أَيَّةُ عِلَّة، فوَسْوَسَ لَهُ أَصْحَابُهُ الـخَوَاصّ، بِمُرَاجَعَةِ المُسْتَوْصَفِ الـخَاصّ، وذَلِكَ لِسُرْعَتِهِ في إنْجَازِ المَهَامّ، ولِكَثْرَةِ ازْدِحَامِ المُسْتَوْصَفِ العَامّ، وأَوْصَوْهُ بِتَضْمِيْدِ مَكَانِ القَرْصَة، وأَلاّ يَتْرُكَ لِعَوْدَةِ الأَلَـمِ فُرْصَة، فوَثَبَ الرَّجُلُ إلى المَكَانِ المُشَارِ إلَيْه، ودَفَعَ أُجْرَةَ التَّضْمِيْدِ والكَشْفِ عَلَيْه، ثُمَّ أَشْخَصُوْهُ إلى طَبِيْبٍ أَقْرَع، لِلْفَهْلَوَةِ في وَجْهِهِ مَرْتَع، وعَلَيْهِ نَظَّارَةٌ سَمِيْكَة، والشَّهَادَاتُ تَـمْلأُ شَبَابِيْكَه، فلَـمَّا رَأَى القَرْصَةَ وَلْوَل، واسْتَدْعَى مُسَاعِدِيْهِ واسْتَعْجَل، وأَمَرَ بِنَقْلِهِ إلى غُرْفَةِ الإسْعَاف، وطَلَبَ مِنَ الرَّجُلِ بِطَاقَةَ الصَّرَّاف، ثُمَّ شَدَّ حِزَامَ البِنْطَال، واقْتَـرَبَ مِنْهُ وقَال:



لَقَدْ رَأَيْتُ وَرَبِّنا المَعْبُوْد، بِعَيْنِي التي سَيَأْكُلُها الدُّوْد، قَرْصَةً لَـمْ أَرَ مِثْلَهَا عَلَى الإطْلاق، ولا أَعْرِفُ أَخْطَرَ مِنْها عَلَيَّ الطَّلاق، ولِذا سَنُجْرِي لَكَ التَّحَالِيْلَ الفَوْرِيَّة، ونُخْضِعُكَ لِبَعْضِ الأَشِعَّةِ المَقْطَعِيَّة، فإنْ كَانَتِ النَّتِيْجَةُ كَمَا في البَال، فلا بُدَّ فَوْراً مِنَ الاسْتِئْصَال، وسَنَقُصُّ أَوَّلاً إصْبَعَكَ المَقْرُوْص، فإنِ انْتَقَلَتِ العَدْوَى مِنَ المَقْصُوْص، فوَالكَعْبَةِ الشَّرِيْفَةِ والمُصْحَف، لا بُدَّ مِنِ اسْتِئْصَالِ الكَفّ، وقَدْ نَسْتَأْصِلُ أَعَلَى السَّاعِد، والبِنْكِرْيَاسَ والكَبِدَ الزَّائد، ورُبَّمَـا اضْطُرِرْنا إلى بَتْرِ رِجْلَيْك، وقَدْ نَـنْـزِعُ إحْدَى كُلْيَتَيْك، فوَقِّعْ عَلَى وَرَقَةِ المُوَافَقَة، وهُنَا عَلَى الفَاتُوْرَةِ المُرَافِقَة، وبِحَقِّ ما أَكَلْنَاهُ مِنْ عَيْشٍ ومِلْح، إنَّ هَدَفَنا العِلاجُ ولَيْسَ الرِّبْح، فإنْ أَخَذَتْكَ بِالشَّكِّ لَـجَاجَة، فإنَّ الفُلُوْسَ آخِرُ حَاجَة، ومِثْلُكَ نَرْفَعُهُ عَلَى الرُّؤوْس، ونُعَالِـجُهُ مِنْ غَيْرِ فُلُوْس، ولَكِنَّهُ ثَمَنُ الدَّوَاءِ وغُرْفَةِ الإنْعَاش، وقِيْمَةُ ما سَنَـنْسَاهُ فِيْكَ مِنْ شَاش.



فوَقَّعَ المِسْكِيْنُ عَلَى الأَوْرَاق، وهوَ بَيْنَ الذُّهُوْلِ والإشْفَاق، فلَـمَّا أُجْرِيَتْ لَهُ العَمَلِيَّات، وأَفَاقَ مِنْ خَدَرِ الإغْمَاءات، شَخَصَ بِعَيْنِهِ اليُسْرَى، حَيْثُ لَـمْ يَـجِدِ الأُخْرَى، فَصَوَّبَ عَيْنَهُ الشَّاخِصَة، ووَجَدَ جُثَّـتَهُ نَاقِصَة، القُطْنُ يَمْلأُ كُوْعَه، وسَاقُهُ اليُمْنَى مَقْطُوْعَة، ورِجْلُهُ اليُسْرَى مَشْلُوْلَة، وإحْدَى أُذُنَيْهِ مَنْشُوْلَة، وضِرْسُهُ الصِّنَاعِيُّ مُنْتَـهَب، إذْ كَانَ مَصْنُوْعاً مِنْ ذَهَب، وشَعَـرَ أَنَّ بَطْنَهُ بَادِي الارْتِـخَاء، لِكَثْرَةِ ما سُلِبَ مِنْهُ مِنْ أَعْضَاء، وبَيْنَمَـا هُوَ يَفْحَصُ المَسَالِك، ويَتَحَقَّقُ مِنْ وُجُوْدِها هُنَالِك، إذْ دَخَلَ عَلَيْهِ الطَّبِيْبُ المُحْتَال، وبَارَكَ لَهُ عَلَى تَـحَسُّنِ الـحَال، ووَصَفَ لَهُ عِلاجَاتٍ وَافِرَة، ودَلَّهُ عَلَى الصَّيْدَلِيَّةِ المُجَاوِرَة، فأَخَذَ الرَّجُلُ يَبْكِي مِنَ البَلْوَى، ويَتَوَعَّدُ الطَّبِيْبَ بِالوَيْلِ والشَّكْوَى، فرَمَقَهُ الطَّبِيْبُ وابْتَسَم، ونَاوَلَهُ الوَرَقَةَ والقَلَم، وقَالَ: أُوْصِيْكَ بِحُسْنِ الصِّيَاغَة، ومُرَاعَاةِ قَوَاعِدِ النَّحْوِ والبَلاغَة، وإنْ شِئتَ التَّقْوِيْم، فأَنا مُدَرِّسٌ قَدِيْم.



فلَمْ يَمْلِكِ الرَّجُلُ إلاّ أَنِ اسْتَدْعَى ذَوِيْه، فأَخْرَجُوْهُ حَامِلِيْنَ ما بَقِيَ فِيْه، وتَأَمَّلَ مَرَّةً أُخْرَى أَوْصَالَه، فأَنْشَدَ وهوَ عَلَى النَّقَّالَة:



إلَيْكَ يَا خَالِقِي شَكَاةً *** مِنْ مُدِّعِي الطِّبِّ وَاللُّصُوْصِ



أَتَيْتُهُمْ طَالِباً ضَمَاداً *** فَعَوَّقُوْنِي عَنِ الـخُلُوْصِ



وَأَشْخَصُوْنِي إلى طَبِيْبٍ *** وَيْلاهُ مِنْهُ وَمِنْ شُخُوْصي



غَالَى بِإرْجَافِهِ فَـتَـبّاً *** لِشَارِبٍ مِنْ دَمِي مَصُوْصِ



وَكَانَ في رَأْسِهِ بَرِيْقٌ *** كَأَنَّهُ لَـمْعَةُ الفُصُوْصِ



مَنْ صَدَّقَ القُرْعَ فَهْوَ شَخْصٌ *** –لا شَكَّ– مِنْ أَحْمَقِ الشُّخُوْصِ



عَرَّى أَكَاذِيْبَهُمْ ثِقَاتٌ *** وَذَمَّهُمْ ثَابِتُ النُّصُوْصِ



وَحَذَّرَتْ مِنْهُمُ الوَصَايَا *** وَحَالَتِي بِالـحِذَارِ تُوْصي



قَدْ كُنْتُ مِنْ قَبْلُ مُسْتَصِحّاً *** وَالآنَ أَصْبَحْتُ عُوْدَ خُوْصِ



أَسْعَى بِنَقَّالَتِي حَثِيْثاً *** كَأَنَّنِي أَمْتَطِي قَلُوْصي



يَقُوْلُ مَنْ رَاعَهُ بَلائي: *** أَبْلاَهُ مُسْتَوْصَفٌ خُصُوْصي




فائت الأمثال مقاربة أدبية ساخرة فواز اللعبون




4 – «أَجْوَرُ مِنْ أُنْثَى عَلَى أُنْثَى»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ في كثيرِ الظُّلْمِ عظيمِه، وفي كارِهِ قَرِيْبِهِ وحَمِيْمِه، ولِمَنْ يَزْدَادُ ظُلْمُهُ عَلَى فِئات، ويَلِيْنُ لَدَى أُخْرَى كَالشَّاة، وأُفْرِدَتِ الأُنْثَى بِصِفَةِ الـجَوْر، لأنَّ كَيْدَها أَبْعَدُ في الغَوْر، كَمَا أنَّ جَوْرَ الإنَاثِ عَلَى الإنَاث، لَهُ وَقَائعُ ثَابِتَةٌ في التُّرَاث.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ رَجُلاً تَزَوَّجَ زِيْـجَةً رَابِعَة، منْ فَـتَاةٍ تَدْرُسُ في الـجَامِعَة، فكَانَتْ تَشْكُو لَهُ طَيْشَ العَامِلات، مِنْ مُوَظَّفَاتٍ ومُعَلِّـمَات، وكَانَتْ تَدْعُو أنْ يَصِيْرَ الأَمْرُ إلى الرِّجَال، لِـمَا تَـرَاهُ مِنْ رَأْفَتِهِمْ عَلَى كُلِّ حَال، أَوْ أَنْ يُوَلَّى مِثْلُها عَلَيْهِنّ، لِيَتَمَيَّـزَ لُطْفُهَا مِنْ بَيْنِهِنّ.



فشَاءَ ذُو المَنِّ وَالإحْسَان، أنْ تَكُوْنَ مِنْ مَنْسُوْباتِ المَكَان، فسَارَتْ عَلَى سِيْرَةِ المَوَائل، وجَاءتْ بِمَا لَـمْ يَأْتِ بِهِ الأَوَائل، فأَسَاءتِ المُعَامَلات، وفَـتَـكَتْ بِالطَّالِبَات، وبَلَغَ زَوْجَها ما هِيَ فِيْهِ مِنْ سُفُوْل، فأَنْشَأَ مِنْ فَوْرِهِ يَقُوْل:



رَثَيْتُ لَـهَا إذْ طَالَ بَوْحُ شَكَاتِـها *** مِنَ الغَبْنِ، وَالمَغْبُوْنُ لا بُدَّ أن يُرْثَى



تُسَائلُ مَوْلاهَا بِأَنْ يَرْفَعَ الأَذَى *** وَيَكْبِتَ عَنْهَا نِسْوَةً زِدْنَـهَا بَثّا



تَقُوْلُ: لَوِ المَوْلَى اصْطَفَانِي مُعِيْدَةً *** لَـحَرَّمْتُ هَذا الـجَوْرَ وَالكَيْدَ وَالـخُبْثا



وَكُنْتُ أُسَلِّيْهَا بِعُقْبَى اصْطِبَارِها *** وَأَبْعَثُ فِيْها الفَأْلَ –مِنْ طِيْبَتِي– بَعْثا



فَلَـمَّا مَضَتْ أَيَّامُهَا وَتَـخَرَّجَتْ *** أَفَاضَ عَظِيْمُ الـجُوْدِ فَضْلاً عَلَى الغَرْثَى



فَأَخْفَتْ شَكَاوَاها، وَأَبْدَتْ شُرُوْرَهَا *** وَرَاحَتْ تَـبُثُّ اللُّؤْمَ مِنْ حَوْلِـهَا بَثّا



فَقُلْتُ –وَقَدْ أُخْبِرْتُ عَنْ بَعْضِ جَوْرِهَا–: *** هُوَ الـجَوْرُ قَدْ حَازَتْهُ مِنْ جِنْسِهَا إرْثا



وَقَدْ صَدَقُوا.. لا شَيْءَ أطْيَشُ مِنْ فَتى *** وَأَجْوَرُ مِنْ أُنْثَى لَـجُوْجٍ عَلَى أُنْثَى





فائت الأمثال مقاربة أدبية ساخرة فواز اللعبون




5 – «أَحْمَقُ مِنْ بِرُقْرَاط»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ أَعْيَاهُ البَلَه، وظَنَّ أَنَّهُ في الـحِذْقِ لا مَثِيْلَ لَه، وبِرُقْرَاطُ رَجُلٌ مِنَ الأَوَائل، وَلاَّهُ السُّلْطَانُ بَعْضَ الشَّوَاغِل، وكانَ كَثِيْرَ الوَسْوَسَةِ والتَّعْقِيْد، مَرَّ بِهِ في عَمَلِهِ العُمْرُ المَدِيْد، ولَـمْ يُنْجِزْ شَيْئاً ذَا قِيْمَة، ولَـمْ تَكُنْ سِيْرَتُهُ قَوِيْمَة، وهوَ مُؤَسِّـسُ اللِّجَانِ الفَرْعِيَّة، وإلَيْهِ تُنْسَبُ النَّظَرِيَّةُ البِيْرُقْرَاطِيَّة.




وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ كَاتِباً لَدَى بِرُقْرَاط، عُرِفَ عَنْهُ الإخْلاصُ والنَّشَاط، وحَدَثَ أَنِ انْتَـهَى حِبْرُ دَوَاتِه، ولَـمْ يَسْتَطِعْ إنْجَازَ مَهَمَّاتِه، فعَـرَضَ مُشْكِلَـتَهُ عَلَى مُدِيْرِه، فعَنَّفَهُ عَلَى إهْمَالِهِ وتَبْذِيْرِه، ورَفَضَ أَنْ يُزَوِّدَهُ بِمَا أَرَاد، وأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنَ المِدَاد، وأَحَالَ طَلَبَهُ إلى اللِّجَان، ومَرَّ عَلَى البَتِّ فِيْهِ عَامَان، وطَوَالَ مُدَّةِ البَتِّ في الطَّلَب، لَـمْ يُنْجِزِ الكَاتِبُ ولا كَتَب، وظَلَّ عَلَى مَكْتَبِهِ كُلَّ نَـهَار، يَنْتَظِرُ ما يُسْفِرُ عَنْهُ القَرَار، ثُمَّ صَدَرَ القَرَارُ الـحَاسِم، مُوْصِياً بِمَنْحِ ثَلاثَةِ دَرَاهِم، وأَنْ تُشْرِفَ لَـجْنَةٌ عَلَى الكَاتِب، ولَـجْنَةٌ أُخْرَى عَلَيْها تُرَاقِب، عَلَى أَنْ تُـحَقِّقَ لَـجْنَةٌ مَعَهُ بِشِدَّة، لِكَوْنِهِ لَـمْ يُنْجِزْ طَوَالَ تِلْكَ المُدَّة.



ولَـمَّا انْتَـهَتِ المُسَاءلَةُ والإجْرَاءات، شَرَعَ الكَاتِبُ في إنْجَازِ المُعَامَلات، فمَرَّتْ عَلَيْهِ حِسَابَاتُ اللِّجَان، فذُهِلَ مِنْ تَـكَالِيْفِها عَالِيَةِ الأَثْمَـان، وكَيْفَ أَنَّ صَرْفَ بِضْعَةِ دُرَيْـهِمَات، كَلَّفَ الـخَزِيْنَةَ الآلافَ والمِئات، فحَمَلَ نَفْسَهُ وكُلُّهُ إحْبَاط، ودَخَلَ عَلَى مُدِيْرِهِ بِرُقْرَاط، وأَنْشَدَهُ وهوَ بَيْنَ عِصَابَتِه، وفي يَدِهِ وَرَقَةُ اسْتِقَالَتِه:



بِرُقْرَاطُ اسْتَمِعْ مِنِّي فَإنِّي *** رَأَيْتُكَ أَحْمَقَ الآرَاءِ خِبّا



عَلَى أَنِّي عَلِمْتُكَ لا تُبَالِي *** وَلا تَرْجُو مِنَ الآسِيْنَ طِبّا



وَلَكِنِّي سَأُسْمِعُكَ احْتِقَانِي *** وَأَشْفِي مِنْكَ قَافِيَةً وَقَلْبا



سِنُوْنَ مَضَتْ وَأَنْتَ تَظُنُّ وَهْماً *** بِأَنَّكَ أَكْمَلُ الأَقْوَامِ لُبّا



وَلَسْتَ سِوَى غَبِيٍّ حَالَفَتْهُ *** حُظُوْظٌ فَارْتَقَى في الأَمْرِ صَعْبا



فَعَطَّلْتَ المَصَالِحَ في لِـجَانٍ *** تُصَيِّـرُ أَسْمَحَ الـحَاجَاتِ كَرْبا



تَـمُرُّ بِـهَا السِّنُوْنَ ولا نَجَازٌ *** فَكَمْ خَصْبٍ بِـهَا قَدْ صَارَ جَدْبا



أَمِنْ أَجْلِ اعْتِـمَادِ دُرَيْـهِماتٍ *** تُبِيْحُ خَزِيْنَةَ السُّلْطَانِ نَـهْبا؟!



تُقِرُّ لَـهَا الدَّرَاهِمَ وَافِرَاتٍ *** وَفي إقْرَارِ نَـزْرِ المَالِ تَأْبى؟!



وَتُصْدِرُ في مُعَاقَبَتِي قَرَاراً *** كَأَنِّي جِئْتُ في التَّأْخِيْرِ ذَنْبا؟!



فَلَوْ يَدْرِي بِكَ السُّلْطَانُ يَوْماً *** لَـجَرَّكَ في حِبَالِ السُّخْطِ كَلْبا



فَخُذْ مِنِّي مَقَالاً سَوْفَ يَبْقَى *** وَيَذْهَبُ في الوَرَى شَرْقاً وَغَرْبا:



وَرَبِّي لَـمْ يَكُنْ في النَّاسِ حَمْقَى *** بِأَحْمَقَ مِنْ بِرُقْرَاطٍ وَأَغْبَى




فائت الأمثال مقاربة أدبية ساخرة فواز اللعبون



6 – «أَحْيَلُ مِنْ مَصْرِف»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ بَـرَعَ في الـخِدَاع، ثُمَّ فَـتَكَ بِضَحَايَاهُ فَتْكَ السِّبَاع، وكانَ يُظْهِرُ اللِّيْنَ والابْتِسَام، وهوَ في بَاطِنِهِ أَلَدُّ الـخِصَام، والمَصْرِفُ مَكَانٌ لِـحِفْظِ الوَدَائع، ومَرْتَعٌ تُعْتَسَفُ فيهِ الشَّرَائع، يُغْرِي المَسَاكِيْنَ بِالتَّسْهِيْلاتِ والعُرُوْض، ويُوْقِعُهُمْ في حَبَائل التَّقْسِيْطِ والقُرُوْض، ويُـحَلُّ فيهِ الرِّبا بِاسْمٍ مُـخْتَلِف، ولهُ لِـجَانٌ تُقِرُّهُ وتَغْتَرِف.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ رَجُلاً مِنَ الأَخْيَار، أَوْقَعَهُ سُوْءُ حَظِّهِ عَلَى سِمْسَار، وكانَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ بَعْضُ المَال، ويَرْغَبُ في تَنْمِيَتِهِ في الـحَلال، فلَمْ يَسْتَثْمِرْ مَالَهُ في المَصَارِف، وهوَ لأَنْوَاعِ تَلاعُبِها عَارِف، ولَـمْ يَكُنْ يُقْبِلُ عَلَى مَشْرُوْع، ولا يُغَامِرُ في مُبَاحٍ ولا مَمْنُوْع، حتَّى يَـخْتَبِرَ الوَسِيْطَ والتَّاجِر، ويَتَحَقَّقَ مِنْ طَهَارَةِ المَظَاهِر، فتَعَرَّفَ عَلَى سِمْسَارٍ مَعْسُوْلِ اللِّسَان، يُبَادِرُ إلى الصَّلاة مَعَ الأَذَان، ثُوْبُهُ لَـمْ يُـجَاوِزْ قَدَمَه، وسِوَاكُهُ لا يُفَارِقُ فَمَه، دَائمُ الذِّكْرِ والاسْتِغْفَار، ولَهُ لِـحْيَةٌ ووَقَار، فأَلْـهَاهُ المَظْهَرُ عَنِ المَخْبَر، ووَقَعَ فِيْما كانَ يَـحْذَر، فمَا لَبِثَ السِّمْسَارُ أَنْ نَصَبَ شَبَكَتَه، وأَغْرَى بِزَائفِ العُرُوْضِ سَمَكَتَه، ومِنْ فَوْرِهِ عَـرَضَ عَلَيْهِ مُسَاهَمَة، وأَقْسَمَ لَهُ أَنْ يُضَاعِفَ دَرَاهِمَه، وسَاقَ لَهُ مِنْ هَوْلِ الكَلام، ما يُغْرِي أَدْهَى الأَنَام، وحِيْنَ أَطْرَقَ الرَّجُلُ في هَوْلِه، أَرْدَفَ السِّمْسَارُ بِقَوْلِه:



يا أَخي في الله، إنَّ الصِّدْقَ مَنْجَاة، وأَنا لا أُصْفِيْكَ إلاّ النُّصْح، ولا أَرْجُو مِنْكَ أَيَّ رِبْح، فاسْمَعْ وُقِيْتَ ضَيْرا، وجَزَاكَ اللهُ خَيْرا، إنَّ المُسَاهَمَةَ تِلْكَ ذَاتُ جَدْوَى، وقَدْ أَصْدَرَ العُلَـمَاءُ فِيْها فَتْوَى، كَمَا أَنَّـها مَدْعُوْمَةٌ مِنَ الكُبَرَاء، وعِلْيَةُ القَوْمِ فِيْها شُرَكَاء، والقَائمُوْنَ عَلَيْها رِجَالٌ أَكَارِم، مِنْهُمْ أَبُو عِكْرِمَةَ وأَبُو عَكَارِم، ولِذا هِيَ مَأْمُوْنَة، وأَرْبَاحُها مَضْمُوْنَة، وثَمَّةَ آخَرُوْنَ يَـحْلُمُوْنَ بِاغْتِنَامِها، ولَكِنَّها أَوْشَكَتْ عَلَى تَـمَامِها، ولَـمْ يَبْقَ فِيْها غَيْرُ أَسْهُمٍ قَلِيْلَة، والنَّاسُ تَبْذِلُ في اقْتِنَاصِها الـحِيْلَة، وقَدْ بَقِيَ عَلَى إغْلاقِها يَوْمَان، فبَادِرْ إلى اغْتِنَامِها واللهُ المُسْتَعَان، ولَوْلا أَنَّنِي أَحْبَـبْتُكَ في اللهِ العَظِيْم، لَعَـرَضْتُها عَلَى غَيْرِكَ يا أَخِي الكَرِيْم، فائْذَنْ لي بِالانْصِرَافِ الآن، لأَنَّنِي أَسْمَعُ صَوْتَ الأَذَان، وأَخْشَى أَنْ أَتَأَخَّرَ عَنِ الصَّفِّ الأَوَّل، ويَفَوْتَنِي مِنَ اللهِ الأَجْرُ الأَجْزَل، فقَدْ صَحَّ في ثَابِتِ المَرْوِيَّات، عَنِ الرِّجَالِ الأَفَاضِلِ الثِّقَات، أَنَّ نَبِيَّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، خَصَّ الصَّفَّ الأَوَّلَ بِالفَضْلِ الأَعْظَم، ولَعَلَّكَ تُوَافِيْنِي بِالمَالِ هُنَاك، أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَدِّدَ خُطَاك.



فوَضَعَ الرَّجُلُ مَالَهُ مَعَ الـخَبِيْث، وحَدَثَ ما لا يَـحْتَاجُ إلى حَدِيْث، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الدِّيْنِ والفَضْل، فأَخْبَرُوْهُ عَنْ خُلُقِهِ الـخَسِيْسِ الرَّذْل، وأَنَّهُ مُتَسَلِّقٌ عَلَى الدِّيْن، ولَيْسَ بِثِقَةٍ ولا أَمِيْن، ثُمَّ حَذَّرُوْهُ مِنَ الانْخِدَاعِ بِالأَشْكَال، وبِخَاصَّةٍ فِيْما يَتَعَلَّقُ بِالمَال، فمَضَى والـحَسْرَةُ مِلْءُ أَحْشَائه، وأَنْشَدَ وهوَ في غَمْرَةِ اسْتِيَائه:



تَـجَافَيْتُ عَنْ مَصْرِفٍ مَاكِرٍ *** لِعِلْمِي بِأَنْوَاعِ حِيْلاتِهِ



يُرَابِي وَتُفْتِي لَهُ لَـجْنَةٌ *** يَـجُوْدُ عَلَيْهَا بِشَيْكَاتِهِ



يُـحَيِّـيْكَ إنْ جِئْتَ في حَاجَةٍ *** وَفِيْكَ لَهُ كُلُّ حَاجَاتِهِ



تُرِيْكَ الأَمَانَ ابْتِسَامَاتُهُ *** وُكُلُّ الأَذَى في ابْتِسَامَاتِهِ



فَإنْ نَالَ مِنْكَ الذي يَشْتَهِي *** أَرَاكَ فُنُوْنَ قَذَارَاتِهِ



فَمَنْ ذَا يُزَاحِمُ في مَوْرِدٍ *** وَقَدْ ذَاقَ كَأْسَ مَرَارَاتِهِ؟!



فَأَلْقَانِيَ الـحَظُّ عِنْدَ امْرِئٍ *** يُـخَبِّرُكَ الطُّهْرُ عَنْ ذَاتِهِ



قَصِيْرُ الإزَارِ لَهُ لِـحْيَةٌ *** وَيَا مَا أُحَيْلَى عِبَارَاتِهِ



يُنِيْلُكَ خَالِصَ تَـجْرِيْبِهِ *** وَيُصْفِيْكَ عَذْبَ مَشُوْرَاتِهِ



وَثِقْتُ بِظَاهِرِ تَدْلِيْسِهِ *** ولَـمْ أَبْلُ بَاطِنَ نِيَّاتِهِ



فَأَحْرَزَ مَالي وَوَلَّى بِهِ *** فَلِلَّهِ أَشْكُو خَسَاسَاتِهِ



لَقَدْ كَانَ أَحْيَلَ مِنْ مَصْرِفٍ *** وَأَلْسَعَ مِنْ كُلِّ حَيَّاتِهِ



فَـتَـبّاً لَهُ كَاذِباً فَاجِراً *** يَـرَى الدِّيْنَ ضِمْنَ تِـجَارَاتِهِ






2 
مجدى سالم


7 – «أَرْخَصُ مِنْ دَال»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ في الشَّيْءِ المُمْتَـهَن، حِيْنَ يَـحُوْزُهُ الرَّعَاعُ بلا ثَمَن، والدَّالُ حَرْفٌ مُـخْتَصَر، يَدُلُّ عَلَى عِلْمٍ وأَثَر، وحامِلُهُ حَاصِلٌ عَلَى الدُّكْتُوْرَاه، بَعْدَ أنْ أَفْنَى في تَـحْصِيْلِها صِبَاه.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ رَجُلاً جَدَّ في تَـحْصِيْلِه، ورَضِيَ مِنَ العَيْشِ بِقَلِيْلِه، فعُيِّنَ في جَامِعَتِهِ مُعِيْدا، وسَلَكَ في العِلْمِ دَرْباً مَدِيْدا، وقَنِعَ مِنَ المَالِ بِالنَّـزْر، وفازَ أَتْرَابُهُ بِجَزْلِ الأَجْر، وبَقِيَ عَلَى حَالَتِه، يَعْمَلُ في رِسَالَتِه، ويُنْجِزُ مَرْحَلَةً تِلْوَ مَرْحَلَة، حَتَّى وَصَلَ لِـمَا سَارَ لَه، بَعْدَ سِنِيْنَ عِجَاف، رَضِيَ فِيها بِالكَفَاف.



وحينَ ذاقَ الوَبَال، وأَصْبَحَ ذَا دَال، سَمِعَ عَنْ أُناسٍ تَدَكْتَـرَت، وفي حَلْبَةِ الزَّهْوِ تَـبَخْتَـرَت، ونَالَتْ مِنَ الشَّهَادَةِ مُنَاها، بَيْنَ عَشِيَّةٍ وضُحَاها، فسَأَلَ عَنِ الـحَاصِل، فأُخْبِرَ بالمَهَازِل، واتَّضَحَ لهُ أَنَّ تِلْكَ الفِئة، حَصَلَتْ عَلَى مِئةٍ مِنْ مِئة، وتَقْدِيْرُهُمْ مِنْ قَبْلُ مَقْبُوْل، ولا تَـكَادُ تَرْقَى بِـهِمْ عُقُوْل، وأَنَّ جِهَاتِـهِمُ المَانِحَة، عَقَدَتْ مَعَهُمْ صَفْقَةً رَابِحَة، وحَلُّوا كِيْسَهُمُ المَرْبُوْط، فقُبِلُوا بلا شُرُوْط.



فزَفَرَ صَاحِبُنا وشَهَق، وقَرَّبَ اليَـرَاعَ والوَرَق، ثُمَّ اسْتَلْهَمَ مُعَانَاتَهُ واسْتَحْضَر، وكَتَبَ بَعْدَما اسْتَعْبَر:



ثَمَانِ سِنِيْنَ اقْتَدْتُ فِيْهَا مَطَامِـحِي *** وَكُنْتُ بِـهَا في أَسْوأِ الـحَالِ وَالبَالِ



أُصَرْصِرُ أَقْلامي وَأَحْشُو دَفَاتِرِي *** وَأَسْهَرُ حَتَّى يَسْأَلَ النَّجْمُ عَنْ حَالي



أَخُطُّ وَأَمْـحُو، ثُمَّ أُطْرِقُ مُتْعَباً *** وَأَنْهَضُ وَالإعْيَاءُ يُنْهِكُ أَوْصَالي



أُرَاسِلُ مُهْتَـمّاً، وَأَسْأَلُ عَالِـماً *** وَأَبْذِلُ في نَيْلِ المَرَاجِعِ أَمْوَالي



إذا أَبْصَرَتْ أُمِّي عَنَائي تَـحَسَّرَتْ *** وَقَالَتْ: شَفَاكَ اللهُ يا وَلَدي الغَالي



وإنْ أَبْصَرَتْني زَوْجَتِي صَرَخَتْ أَسىً *** وَقَالَتْ: إلامَ العَيْشُ مِنْ دُوْنِ أَطْفَالِ؟



فأُعْرِضُ عَنْ هَذِي وَتِلْكَ، وأَنْثَنِي *** أُسَطِّرُ أَحْلامي، وَأَرْسِمُ آمَالي



إلى أَنْ تَـرَاءَى لِي المُرَادُ، وَطَابَ لِي *** قِطَافٌ أَرَانِي الوَيْلَ حَتَّى تَسَنَّى لي



فَلَـمَّا تَدَكْتَـرْتُ انْفَجَعْتُ بِثُلَّةٍ *** أَبَاحَتْ حِمَى التَّعْلِيْمِ في حِصْنِهِ العَالي



أَغَارُوا عَلَى الدَّالاتِ كَالقَمْلِ حِيْنَمَـا *** يُغِيْرُ عَلَى المَجْرُوْبِ في غَفْلَةِ الفَالي



وَفَـتَّحَتِ الآمَالُ أَبْوَابَـهَا لَـهُمْ *** وَلا عَجَبٌ! فَالمَالُ فَـتَّاحُ أَقْفَالِ



تَدَاعَوْا، ولَـمْ يَثْنُوا إلى الدَّرْسِ رُكْبَةً *** وَمَا قَرَؤوا إلا رَسَائلَ جَوَّالِ



وَنَالُوا مُنَاهُمْ في لَيَالٍ سَرِيْعَةٍ *** كَأَنَّـهُمُ مِنْ حَلْبَةِ السَّبْقِ في (رَالي)



وَتَاهُوا، فَإنْ نَادَيْتَهُمْ دُوْنَ دَالِـهِمْ *** رَمَوْكَ بِطَرْفِ المُسْتَقِلِّ لَكَ القَالي!



فَقُلْتُ: وَرَبِّي لا رَفَعْتُ شَهَادَةً *** يُبَاهِي بِـهَا في النَّاسِ مَنْ عَقْلُهُ خَالي



خُذُوْهَا وَأَعْطُونِي سِنِيْنِي التي مَضَتْ *** ورُدُّوا عَلَيَّ الجَهْلَ.. إنِّي لَـهَا سَالي



مِنَ العَارِ أنْ تَأْوِي إلى الوَكْرِ قَمْلَةٌ *** وَيَقْبَعَ صَقْرٌ فَوْقَ هَامَةِ مِتْفَالِ



فَلا شَيْءَ أَسْمَى مِنْ إبَاءٍ مُـمَنَّعٍ *** وَأَهْوَنُ مِنْ قَمْلٍ، وَأَرْخَصُ مِنْ دَالِ









8 – «أَشْفَعُ مِنْ وَاو»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ في كَثِيْرِ الشَّفَاعَة، وَاجِبِ التَّقْدِيْرِ والإطَاعَة، و(وَاوٌ) اسْمُ رَجُلٍ مِنَ العَـمَالِيْق، يُقَالُ إنَّهُ يَفْرِجُ الضِّيْق، وهوَ مِنْ عِلْيَةِ القَوْم، ولَهُ نَسْلٌ إلى اليَوْم.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ (وَاواً) زادَ عَلَى قَوْمِهِ ضَخَامَة، وكَانَتْ لا تَصِلُ إلى قَامَتِهِ قَامَة، وبَلَغَ طُوْلُهُ مِئةَ ذِرَاع، ويَمْلِكُ أيْضاً الدِّيَارَ والضِّيَاع، وحُكِيَ أنَّهُ يَصْرَعُ الفِيْلَ بِاللَّمْس، ثُمَّ يَشْوِيْهِ عَلَى الشَّمْس، وإذا ظَمِئَ شَرِبَ بَحْرا، ومَتَى احْتَقَنَ أَفْرَزَ نَـهْرا.



فكَانَتِ الـجَمَـاعَاتُ حَوْلَهُ تُقِيْم، وتَلتَمِسُ فَضْلَ خَيْرِهِ العَمِيْم، وتُطِيْعُه لِـحِمَايَتِه، ومَـخَافَةِ جِنَايَتِه، فلَمْ يَكُنْ يُرَدُّ لهُ مَطْلَب، ولا لِعَاصِيْهِ مِنْهُ مَهْرَب، وبَقِيَتْ لهُ ذُرِيَّة، مُنْتَشِرَةً في البَرِيَّة، ما لَـهَا عُشْرُ ضَخَامَتِه، ولا هُطُوْلُ غَـمَامَتِه، فلَـمَّا هَلَكَ وبَاد، ونُصِبَتْ فَوْقَهُ الأَوْتَاد، وَجَدُوا عَلَى دَارِ وُجُوْمِه، شِعْراً لأَحَدِ خُصُوْمِه:



أَيَا (وَاوُ) خَبِّرْنِي عَنِ المَوْتِ وَالبِلَى *** وَعَنْ مَـجْدِكَ الفَانِي وَعَنْ قَبْرِكَ الـخَاوي



لَقَدْ كُنْتَ في الأَقْوَامِ حَيّاً مُعَظَّماً *** وَهَا قَدْ طَوَاكَ اليَوْمَ عَنْ عَيْشِنَا طَاوي



قَهَرْتَ رِجَالاً، وَاغْتَصَبْتَ حُقُوْقَهُمْ *** وَنِلْتَ الذي لَـمْ يَـحْوِهِ في الوَرَى حَاوي



وَقَسَّمْتَ خَيْرَ الأَرْضِ قِسْمَةَ جَائرٍ *** فَأَشْبَعْتَ مَنْ تَـهْوَى، وَمَاتَ بِكَ الطَّاوي



تَشَفَّعْتَ في الأَدْنَيْنَ حَتَّى رَفَعْتَهُمْ *** وَأَمَّا سِوَاهُمْ فَالرَّجَاءُ بِـهِمْ هَاوي



لَقَدْ جُرْتَ حَتَّى قِيْلَ: يَا هَوْلَ جَوْرِهِ *** وَحَابَيْتَ حَتَّى قِيْلَ: أَشْفَعُ مِنْ (وَاوِ)



فَأَيْنَ الذِيْنَ اليَوْمَ تَرْقُبُ حَـمْدَهُمْ؟ *** لَقَدْ ذَهَبُوا وَاسْتَخْلَفُوا حَوْلَكَ العَاوي








9 – «أَشْكَلُ مِنْ حَدَاثِيّ»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ كَثُرَتْ طَلاسِمُه، وأَشْكَلَتْ عَلَى الأَفْهَامِ تَـمَاتِـمُه، والـحَدَاثِيُّ رَجُلٌ لا يَعِي ما يَقُوْل، ولا تَصِلُ إلى هَذْرِهِ العُقُوْل، يَكْتُبُ لِنَفْسِه، ويَتَـبَرَّأُ مِنْ أَمْسِه، كَثِيْرُ الانْتِقَادِ والضَّجَر، ويَـرَى أنَّهُ لَيْسَ مِنَ البَشَر، نَاقِدُهُ في رَأْيِهِ رَجْعِيّ، وهوَ بِطَبْعِهِ نَفْعِيّ.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ شَابّاً أَحَبَّ الأَدَب، وبَذَلَ في جَنْيِ رَحِيْقِهِ ودَأَب، فمَرَّ عَلَى جُمْلَةٍ مِنَ الأَعْلام، وأَخَذَ عَنْهُمْ ما يَرْوِي الأُوَام، فما انْكَفَأَ عَلَى مَذْهَب، ولا اكْتَفَى مِنْهُ بِمَشْرَب، فجَمَعَ مِنَ الأَدَبِ المَحَاسِن، وانْتَقَى مِنَ المَـنَاجِمِ المَعَادِن، فسَمِعَ عَنْ رَجُلٍ وَاسِعِ الذِّكْر، لَهُ مُصَنَّفَاتُ نَقْدٍ وشِعْر، فأَمَّهُ وقَصَدَه، وأَعْلَمَهُ مَقْصَدَه، والْتَـمَسَ مِنْهُ الوِفَادَة، وتَـحْصِيْلَ الإفَادَة، فمَا لَبِثَ الرَّجُلُ أنْ رَمَقَهُ شَزْرا، وأَطْرَقَ مَرَّةً وصَعَّدَ أُخْرَى، ثُمَّ اسْتَرْسَلَ يَقُوْل، وفي الفَرَاغِ يَـجُوْل:



يَـجِبُ أَوَّلاً أَنْ تَـتَخَلَّصَ مِنَ الرُّفَات، وتَنْقَطِعَ عَنْ شُيُوْخِكَ النَّكِرَات، وتَـمْسَخَ أَفْكارَكَ البَالِيَة، وتَـتَجَرَّدَ مِنْ أَنَاكَ العَالِيَة، فحِيْنَ تَـتَـبَلْوَرُ في بَوْتَقَة، سَتُدْرِكُ السِّيَاقَاتِ والأَنْسِقَة، ولَنْ يَكُوْنَ لَكَ صِيْت، قَبْلَ أنْ تَفْهَمَ التَّفْتِيْت، ولا غِنىً لَكَ عَنِ التَّمَظْهُر، وحَلِّ شَفْرَةِ (الـهَمْبُرْغُر)، فكُلُّ المَـنَاهِجِ التَّارِيْـخَانِيَّة، تُعْوِزُهَا الدِّيْنَامِيْكِيِّة الظَّاهِرَاتِيَّة، ومُؤَسِـسُ سُلْطَتِهَا شَطَح، في إسْقَاطَاتِ المُصْطَلَح، ولا سِيَّـمَا أنَّ النَّاقِدَ (فِيْبَـرِغْلاس)، لَـمْ يَطَّلِعْ عَلَى نَظَرِيَّةِ هِيْمُوْرَاس، وظَلَّ في صِرَاعٍ مُشْتَبِك، مَعَ الرِّوَائيِّ (مُوْفِنْ بِك)، ومَعَ أنَّـهُما أفَادَا مِنَ التَّشَكُّلاتِ الإمْبِرْيَاقِيَّة، إلاّ أنَّـهُما يَفْتَقِرَانِ إلى الشَّفَافِيَّة، ولَـهُما مِنْ (كِرِسْتِيَنْ دُيُوْر)، مَوْقِفٌ تَأَزُّمِيٌّ مَشْهُوْر، فَالسِّيْمِيُوْطِيْقِيَا في رَأْيِـهِما مُؤَشِّرَات، وهَذَا هُوَ رَأْيُ (دَانْكِنْ دُوْنَات)، ومَهْمَا يَكُنْ بَيْنَهُمْ مِنِ انْشِطَاح، فهُمْ يَتَّفِقُوْنَ عَلَى مَبْدَأِ الانْـزِيَاح، مَعَ أنَّ المُـتَخَيَّلَ النَّصَّانيّ، يَتَقَاطَعُ مَعَ التَّمَحْوُرِ الزَّمَكَانيّ.(1)



وما زَالَ الرَّجُلُ يَبْـرِمُ ويَفْتُل، ويَمُطُّ شِدْقَيْهِ ويَسْعُل، ويَرْفَعُ نَظَّارَتَهُ ويَضَع، ويَشْبِكُ يَدَيْهِ ويَدَع، والفَـتَى أَثْنَاءَ ذَلِكَ يُبْدِي سَأَمَه، ويَفْغَرُ في وَجْهِ الشَّيْخِ فَمَه، فمَا أَحَسَّ بِهِ ولا دَرَى، إلاّ حِيْنَ فَارَقَهُ وجَرَى، ولَـمَّا خَفَّ عَنْهُ الذُّهُوْل، أَنْشَأَ مِنْ فَوْرِهِ يَقُوْل:



أَلْقَانِيَ الرَّأْيُ التَّعِيْسُ عَلَى امْرِئٍ *** تَـتَنَافَرُ الكَلِمَاتُ في أَوْصَافِهِ



خَالِي الفِنَاءِ مُرِيْبَةٌ لَفَـتَاتُهُ *** مُسْتَوْحِشُ النَّظَراتِ مِنْ أَضْيَافِهِ



لازَمْتُهُ أَبْغِي جَنَاهُ فَخَصَّنِي *** بِحَدِيْثِ مَسْلُوْبِ الإرَادَةِ تَافِهِ



أَرَأَيْتَ أَشْكَلَ مِنْ حَدَاثِيٍّ إذا *** لاكَ الكَلامَ، وَهَزَّ مِنْ أَعْطَافِهِ؟



يَـهْذِي بُمُلْتَبِسِ الكَلامِ، فَقُلْ لِمَنْ *** رامَ التَّشَعْوُذَ وَالكَهَانَةَ: وَافِهِ



لَوْ لَـمْ أَقُلْ وِرْدِي غَدَاةَ أَتَيْتُهُ *** لَـخَرَجْتُ مَـحْمُوْلاً عَلَى أَكْتَافِهِ



لَـمْ أَدْرِ مَا مَغْزَاهُ مِنْ تَـمْطِيْطِهِ *** شِدْقَيْهِ وَهْوَ يَلُجُّ في إرْجَافِهِ



يَزْهُو بِمُصْطَلَحَاتِهِ، وَيَسُوْقُ لِي *** أَعْلامَهَا، وَيَـحُطُّ مِنْ أَسْلافِهِ



وَشْـيٌ مِنَ التَّغْرِيْبِ مُلْتَحِفٌ بِهِ *** وَيَظُنُّ أنَّ الوَعْيَ تَـحْتَ لِـحَافِهِ



قَدْ حَيَّـرَتْنِي مِنْهُ كُلُّ عِبَارَةٍ *** وَعَيِـيْتُ كُلَّ العِيِّ عَنْ أَهْدَافِهِ



-------



(1) قَالَ الرَّاوِي: أَقْحَمَ الـحَدَاثِيُّ الأَسْمَاءَ المُحَاطَةَ بِقَوْسَيْنِ تَـمَادِياً في الاسْتِعْرَاض، وإلاّ فهيَ أَسْمَاءٌ أَجْنَبِيَّةٌ لِبَعْضِ الأَطْعِمَة، والمُنْتَجَاتِ التِّجَارِيَّة.










10 – «أَضْيَعُ مِنْ رَاتِب»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ بَلَغَ بِهِ الضَّيَاعُ مُنْتَـهَاه، وتَـبَدَّدَتْ عَلَى دُرُوْبِ حَاجَاتِهِ خُطَاه، والرَّاتِبُ مَالٌ يُقْبَضُ كُلَّ شَهْر، يَـحْصُلُ عليهِ العَامِلُ نَظِيْرَ أَجْر، ولا يَكَادُ يُغْنِي مِنْ جُوْع، ويَتَـبَدَّدُ في أَوَّلِ أُسْبُوْع.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ رَجُلاً كَانَ يُنْجِزُ مُعَامَلَة، فلَقِيَ منَ العَامِلِيْنَ أَسْوَأَ مُعَامَلَة، هَذَا يُبْعِدُ عَنْهُ ويُشِيْح، وذَاكَ يَعْبِسُ بَوَجْهٍ قَبِيْح، وثَالِثٌ يَـهُشُّ بِالصَّحِيْفَةِ مُرَاجِعَه، وهوَ يَـحُلُّ الكَلِمَاتِ الـمُتَقَاطِعَة، ورَابِعٌ يَعْتَذِرُ بِالانْشِغَال، وهوَ يَـهْمِسُ بِـهَاتِفِهِ الـجَوَّال، وخَامِسٌ ما لَهُ عَنِ الـحَاسُوْبِ الْتِفَات، وهوَ غَارِقٌ في مَوَاقِعِ المُحَادَثَات.



حَتَّى إذا طَافَ بِالمَبَانِي والمَكَاتِب، وعَادَ مِنْ حِيْثُ أَتَى كَالـخَائب، أَشَارَ عَلَيْهِ مُـحِبُّوْه، بِما أَوْصَاهُ بِهِ أَبُوْه، فتَذَكَّرَ مُوَظَّفاً في الدَّائرَة، قَدْ أَرْضَعَتْهُ جَدَّتُهُ العَاشِرَة، فقَصَدَهُ وحَيَّاه، وَأَخْبَـرَهُ عَنْ مَسْعَاه، فما عَادَ إلَيْهِ لَـمْحُ طَرْفِه، إلاّ ومُعَامَلَـتُهُ مُنْجَزَةٌ في كَفِّه، ثُمَّ أَنْشَدَه، حِيْنَ أَنْجَدَه:



رَمَتْنِي الـحُظُوْظُ عَلَى عُصْبَةٍ *** تُصَعِّبُ مِنْ مَطْلَبِي كُلَّ هَيْنْ



أُطَارِدُهُمْ وَاحِداً وَاحِداً *** وَأَرْجِعُ مِنْهُمْ بِخُفَّي حُنَيْنْ



فَمُذْ أَفَلَ الفَأْلُ عَنْ مَطْلَعِي *** وَعُدْتُ كَمَا جِئْتُ صِفْرَ اليَدَيْنْ



قَصَدْتُكَ مُلْتَمِساً نَخْوَةً *** رَضَعْنَا بِـهَا في الصِّبَا رَضْعَتَيْنْ



فَأَنْجَزْتَ لي مَطْلَباً هَدَّني *** وَأَنْـهَيْتَ مَسْعايَ في لَـمْحِ عَيْنْ



وَقَدْ كُنْتُ أَضْيَعَ مِنْ رَاتِبٍ *** تَفَرَّقَ بَيْنَ مُكُوْسٍ ودَيْنْ



فَشُكْراً لِـجَدَّتِنا مَرَّةً *** وشُكْراً لأَثْدَائها مَرَّتَيْنْ









11 – «أَغْدَرُ مِنْ كُرْسِيّ»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ غَرَّهُ المَنْصِبُ المُؤَقَّت، فشَقَّ عَلَى مَنِ اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِمْ وأَعْنَت، وراحَ يُسِـيْءُ ويَبْطِش، ويَلْكُمُ هَذا ويَـخْدِش، والكُرْسِيُّ مَنْصِبٌ دَوّار، لَيْسَ لَهُ قَرَار.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ مُوَظَّفاً غَبَنَهُ مُدِيْرُهُ الـجَدِيْد، اللابِسُ وَهْماً حِلْيَةَ هَارُوْنَ الرَّشِيْد، فزادَ عَلَيْهِ المَشَقَّة، وسَلَبَهُ كَرَامتَهُ وحَقَّه، ومَارَسَ مَهَامَّ الـخُلَفَاء، فنَـهَى وأَمَرَ بِما شَاء، وتَعَسَّفَ في القَرَارَاتِ والأَوَامِر، وأَهَانَ أَكَابِرَ القَوْمِ والأَصَاغِر، وجَعَلَ العَامِلِيْنَ في احْتِدَام، وأَوْقَعَهُمْ في تَـحَزُّبٍ وصِدَام، ولَـمْ يَعْتَدَّ إلا بِمُشَابِـهِيْهِ في العُنْف، وأَزْرَى بِمَنْ طَابَعُهُمُ اللِّيْنُ واللُّطْف، ووَصَمَهُمْ بِالإهْمَالِ والرَّخَاوَة، ورَأَى أنَّ التَّمَيُّـزَ في القَسَاوَة، وهوَ مَعَ تَشَدُّقِهِ بِالأَنْظِمَةِ حِيْنَ يُوَاجَه، يَتَحَايَلُ عَلَيْها بِمَـا يُوَافِقُ مِزَاجَه، فكَمْ حَابَى عُصْبَـتَهُ العَنِيْفَة، وكَمْ حَبَا سِوَاهُمْ تَطْفِيْفَه، وقَدْ غَابَ عَنْهُ أنَّ كُرْسِيَّهُ هَشّ، وأنَّهُ سَيَجْلِسُ بَعْدَهُ عَلَى قَشّ، وحِيْنَئذٍ يَـجْنِي الشَّوْكَ زَارِعُه، ويَنْدُبُ ثَوْبَ المُرُوْءَةِ خَالِعُه.



وما هِيَ إلا شُهُوْرٌ ولَّتْ مُدْبِرَة، حَتَّى رُكِلَ المُدِيْرُ عَلَى المُؤَخِّرَة، فعَادَ لا هَيْبَةَ لَهُ ولا قِيْمَة، وانْفَضَّتْ عَنْهُ عُصْبَتُهُ اللَّئيْمَة، وصَارَ لِـمَا هُوَ فِيْهِ مِنْ إيْـحَاش، يُنَاجِي عَامِلَ الصِّيَانَةِ والفَرَّاش، وكَمْ شُوْهِدَ وهوَ يَـهُشُّ الذُّبَاب، ويَعْبَثُ بِأَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِسَاب.



وقَبْلَ أَنْ يُـخْلَعَ المُدِيْرُ مِنْ مَنْصِبِه، رَأَى المُوَظَّفُ أَنْ يَـخُصَّهُ بِتَعَتُّبِه، إذْ كَانَ بَيْنَهُما وُدٌّ قَدِيْم، وقَدْرٌ مِنَ الإخَاءِ حَمِيْم، فانْدَفَعَ بِوَاجِبِ الصُّحْبَةِ المُضَاعَة، لِيُبَصِّرَهُ بِمَـا هُوَ فِيْهِ مِنْ بَشَاعَة، فنَظَمَ فِيْهِ قَصِيْدَةً عَلَّهَا تُطِبُّه، وافْتَـتَحَها بِخِطَابِهِ بِمَا يُـحِبُّه، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ مَكْتَـبَه، وأَنْشَدَهُ حِيْنَمَـا انْتَـبَه:



حَنَانَيْكَ يَا ذَا المَجْدِ والـجَاهِ والعُلا *** وَيَا قَمَرَ الدُّنْيَا وَيَا مَطْلِعَ الشَّمْسِ



أَصِخْ لِصَدِيْقٍ لَـمْ يَـحُلْ عَنْ وَفَائهِ *** ولَـمْ يَنْسَ وُدّاً صَانَهُ لَكَ بِالأَمْسِ



رَأَيْتُكَ مَقْطُوْعاً عَنِ الرَّأْيِ سَادِراً *** وَتَـخْتَالُ في الأَنْحَاءِ مُنْتَفِخَ الرَّأْسِ



تُسِـيْءُ إلَيْنَا شَاتِـماً وَمُلاسِناً *** وَتَفْتِكُ فِيْنَا مِثْلَ عَنْتَـرَةَ العَبْسي



أَهَنْتَ شُيُوْخاً، وَاعْتَسَفْتَ أَحِبَّةً *** وَطِشْتَ كَمَا قَدْ طَاشَ في يَدِكَ (البِـبْسي)



فَقُلْتُ: صَدِيْقِي حَادَ عَنْ سَنَنِ الـهُدَى *** وَظَنَّ بِأَنَّ الثُّوْمَ أَحْلَى مِنَ الدِّبْسِ



وَلَـمَّا رَأَيْتُ الشَّقَّ زَادَ اتِّسَاعُهُ *** وَأَصْبَحْتَ أَعْرَى مِنْ مُـجَرَّدَةِ اللُّبْسِ



أَتَيْتُ أَقُوْلُ: اسْمَعْ نَصِيْحَةَ مُشْفِقٍ *** أَتَاكَ مِنَ التَّعْجَالِ مُسْتَأْجِراً (تَكْسي)



تَنَـبَّهْ فَمَا شَيءٌ أَخَسَّ مِنَ الأَذَى *** وَأَخْبَثَ مِنْ لُؤْمٍ وَأَغْدَرَ مِنْ كُرْسي



وَهَذَا ولَـمْ تُـمْنَحْ سِوَى بَعْضِ سُلْطَةٍ *** فَكَيْفَ إذا الكُرْسِيُّ تَـحْتَكَ قَدْ أُرْسي؟!



سَتَشْنِقُ مُسْتَاءً، وَتَصْلِبُ شَاكِياً *** وَأَهْوَنُـنَا سُخْطاً يُقَادُ إلى الـحَبْسِ!









12 – «أَغْنَجُ مِنْ مِسْخ»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ تَـكَلَّفَ النُّعُوْمَة، وسَلَكَ في التَّمَايُعِ مَسَالِكَ مَذْمُوْمَة، والمِسْخُ جِنْسٌ مِنَ البَشَر، يَـجْمَعُ بَيْنَ الأُنْثَى والذَّكَر، وهوَ أَصْلاً فَتىً نَاقِصُ الرُّجُوْلَة، يُطِيْلُ أَمَامَ المِرْآةِ مُثُوْلَه، ويَلْبَسُ أَضْيَقَ المَلابِس، ولأُخْتِهِ دَائماً يُنَافِس، وقَدْ يُطَوِّرُ في الغَنَجِ سُلُوْكَه، فَيُبَرْوِزُ وَجْهَهُ بِأَغْرَبِ سَكْسُوْكَة.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ رَجُلاً قَضَى عَلَيْهِ العَنَاء، أنْ يُـحَقِّقَ رَغْبَةَ أُخْتِهِ الرَّعْنَاء، وكَانَتْ فَـتَاةً رَدِيْئةَ النَّصِيْب، وسَبَقَ أنْ طَلَبَها أَكْثَرُ مِنْ خَطِيْب، فكَانَتْ تُعْلِنُ لأَهْلِها عَنْ إحْجَامِها، لِكَوْنِهِمْ لا يُشْبِهُوْنَ فَارِسَ أَحْلامِها، وأنَّـها لا تَرْغَبُ أنْ يَـجْمَعَها زِفَاف، إلاّ مَعَ مَنْ يُشْبِهُوْنَ نُجُوْمَ الغِلاف، وبِخَاصَّةٍ مَنْ تَظْهَرُ عَلَيْهِمُ المُيُوْعَة، ولَـهُمْ في الغِنَاءِ أَعْمَالٌ مَسْمُوْعَة، فرَثَى أَخُوْها لِرَغْبَتِها المَهْوُوْسَة، وخَافَ أنْ تُدْرِكَ أُخْتَهُ العُنُوْسة، فطَافَ يَبْحَثُ عَمَّنْ تِلْكَ صِفَاتُه، وطَالَ في الرِّجَالِ تَفَرُّسُهُ والْتِفَاتُه، فلَمْ يَـجِدْ في أُولَئكَ طِلاَبَه، فَاسْتَشَارَ في الأَمْرِ أَصْحَابَه، فأَخْبَرُوْهُ أنَّـهُمْ يَكْثُرُوْنَ في الأَمَاكِنِ القَمِيْئة، وفي المَقَاهي الـخَافِتَةِ والشَّوَارِعِ المُضِيْئة، ولا يَـخْرُجُوْنَ إلاّ في المَسَاء، ولا يَكَادُوْنَ يُمَيَّـزُوْنَ عَنِ النِّسَاء.



ومِنْ فَوْرِهِ وَثَبَ الأَخُ الـحَرِيْص، وبَعْدَ طُوْلِ بَحْثٍ وتَـمْحِيْص، عَثَرَ عَلَى فَتىً نَاعِمِ الأَطْرَاف، وتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مُعْظَمُ الأَوْصَاف، وكَانَ قَابِعاً في المَقْهَى وَحْدَه، يَدْهُنُ بِـبَعْضِ المُرَطِّبَاتِ جِلْدَه، ويَرْفَعُ بَعْضَ خُصُلاتِهِ عَنْ جَبِيْنِه، ثُمَّ اتَّكَأَ بِأَسْفَلِ فَكِّهِ عَلَى يَمِيْنِه، وأَرْخَى حِزَامَ بِنْطَالِهِ اللَّـزَّاز، وظَلَّ مُسْتَرْخِياً يُشَاهِدُ التِّلْفَاز، وأَثْنَاءَ انْسِجَامِهِ في المُشَاهَدَة، هَزَّزَ عِطْفَيْهِ ولَوَّى سَاعِدَه، وأَخَذَ يَتَـمَايَلُ مَعَ الأُغْنِيَة، وهوَ في حَالَةٍ مُنْتَشِيَة، ثُمَّ الْتَفَتَ في نُعُوْمَةٍ واسْتَدَار، واسْتَدْعَى النَّادِلَ (كُوْمَار)، وطَلَبَ أَنْ يُغَـيِّـرَ القَنَاة، وأنْ يُـحْضِرَ لهُ مِرْآة، فأَعَادَ تَنْعِيْمَ وَجْهِهِ البَرَّاق، ثُمَّ شَكا إلى النَّادِلِ غَبَاوَةَ الـحَلاّق، وكَيْفَ أنَّهُ لِقِلَّةِ خِبْرَتِه، كَادَ يَقُصُّ طَرَفَ طُرَّتِه، وكَيْفَ أنَّ خُشُوْنَةَ يَدَيْه، أَوْشَكَتْ أنْ تَـجْرَحَ خَدَّيْه، فنَظَرَ إليهِ النَّادِلُ بِازْدِرَاء، ثُمَّ تَـرَاجَعَ عَنْهُ إلى الوَرَاء.



وكَانَ الأَخُ يَتَـرَقَّبُ فُرْصَةً مُنَاسِبَة، لِكَي يُدَاخِلَهُ ويَـجْلِسَ جَانِبَه، وفَجْأَةً انْتَفَضَ الفَـتَى وثَار، لَـمَّا تَسَلَّـلَ إليهِ صُرْصَار، فانْتَـهَزَ عَجِلاً الفُرْصَةَ واغْتَنَم، ووَثَبَ يَسْحَقُ الصُّرْصَارَ بِالقَدَم، فشَكَرَهُ الفَـتَى ودَعا لَه، وكَانَ مِنْ ضِمْنِ ما قَالَه:



يَا رَبِّ احْفَظْهُ مِنَ الـحَشَرَات، واحْـمِهِ مِنَ القِشْرَةِ والتَّشَقُّقَات، وارْزُقْهُ أَجْـمَلَ العُطُوْرِ والأَصْبَاغ، وامْلأْ كُلَّ أَوْقَاتِهِ بِالفَرَاغ، ولا تَقْصِفْ يَا رَبِّ ظُفْرَه، ولا تُـرِهِ في المَـنَامِ فَأْرَة، وعَلِّمْهُ الرَّقْصَ والسَّخَافَة، وزِدْ خَصْرَهُ نَحَافَة.



وكانَ الأَخُ وَاقِفاً في ذُهُوْل، ولا يَدْرِي مَاذا يَقُوْل، ومُذْ أَتَمَّ السَّخِيْفُ دُعَاءهُ السَّالِف، هَـمَّ بِاحْتِضَانِ صَاحِبِنا الوَاقِف، فأَبْعَدَهُ عَنْهُ ودَفَعَه، ورَكَلَهُ حَتَّى أَوْقَعَه، وقَالَ: تَـبّاً لَكَ مِنْ نَاقِص، وخُنْفُسٍ مُقَزِّزٍ رَاقِص، ولَوْلا المَلامَةُ والتَّعْنِيْف، لأَدْخَلْتُ رَأْسَكَ في الكَنِيْف، أَلاَ سُحْقاً لِـجِنْسِكَ المَمْسُوْخ، ولِصَدْرِكَ النَّاتِئِ المَنْفُوْخ، ثُمَّ جَذَبَهُ مِنْ سَلْسَالِه، وتَلَّهُ مِنْ حِزَامِ بِنْطَالِه، وقَذَفَهُ خَارِجَ المَكَان، وتَبِعَتْهُ مِنْهُ بَصْقَـتَان، وصَاحَ: العُنُوْسَةُ والبَوَار، ولا الاصْطِلاءُ بِالعَار.




وحِيْنَمَـا اشْرَأَبَّتْ نَفْسُهُ الـجَائشَة، أَقْسَمَ أنْ يُؤَدِّبَ أُخْتَهُ الطَّائشَة، وأَخَذَتْهُ نَشْوَةُ المَرَاجِل، فزَوَّجَها (كُوْمَارَ) النَّادِل، وقالَ لَـها: رَجُلٌ مُكْتَمِلٌ وَضِيْع، ولا خُنْفُسٌ ذُو حَسَبٍ رَفِيْع، ويَوْمَ لامَهُ أَبُوْه، أَنْشَدَ لا فُضَّ فُوْه:



فَدَيْتُكَ لا تَعْجَلْ بِلَوْمِيَ يَا أَبِي *** وَلُمْ أُخْتِيَ الرَّعْنَاءَ إنْ كُنْتَ لائما



أَتَاها مِنَ الـخُطَّابِ كُلُّ مُبَجَّلٍ *** فَلَمْ تَبْغِ إلاّ أَمْلَسَ الـخَدِّ نَاعِما



يُغَنِّي، وَإنْ غَنَّتْهُ بَادَرَ رَاقِصاً *** وَيَشْهَقُ رُعْباً لَوْ رَأَى الفَأْرَ قَادِما



وَيَلْبَسُ بِنْطَالاً وَيَمْضَغُ عِلْكَةً *** وَيَكْسُو الـحُلَى أَقْدَامَهَ وَالمَعَاصِما



فَطُفْتُ مَقَاهِي الـحَيِّ حَتَّى وَجَدْتُهُ *** لِتِلْكَ الصِّفَاتِ الآنِفَاتِ مُوَائما



وَأَمْعَنْتُ فِيْهِ الطَّرْفَ أَسْبُـرُ نَوْعَهُ *** أَأُنْثَى أَرَى؟ لا، رُبَّمَـا كُنْتُ وَاهِما!



وَرَاقَبْتُهُ كَي أَسْتَبِيْنَ فِعَالَهُ *** فَأَبْصَرْتُ مِنْهُ الفَاجِعَاتِ القَوَاصِما



تَسَلَّـلَ صُرْصَارٌ إلَيْهِ فَرَاعَهُ *** وَأَجْرَى مِنَ البِنْطَالِ وَالعَيْنِ سَاجِما



فَلَمْ أَتْرُكِ الصُّرْصَارَ حَتَّى سَحَقْتُهُ *** فَأَغْنَمَنِي بِاسْمِ الدُّعَاءِ المَغَارِما



يَقُوْلُ: إلَـهِي هَبْهُ عِطْراً وَصِبْغَةً! *** وَلا تُرِهِ فَأْراً مَتَى كَانَ نَائما!



وَرَامَ احْتِضَانِي وَيْلَهُ مِنْ مُشَوَّهٍ *** فَقُمْتُ إلَيْهِ ضَارِباً فِيْهِ شَاتِـما



وَأَقْسَمْتُ أَنْ أَقْتَادَ أُخْتِي لِـمَا أَرَى *** فَزَوَّجْتُها وَافِـي الرُّجُوْلَةِ حَازِما



وَوَاللهِ لا أَرْضَى لَـهَا المِسْخَ سَيِّداً *** وَأَرْضَى لَـهَا (كُوْمَارَ) لَوْ كَانَ خَادِما



لَعَمْرُكَ مَا الأُنْثَى تَذُوْبُ مُيُوْعَةً *** بِأَغْنَجَ مِنْ مِسْخٍ يُـهِيْنُ المَكَارِما








13 – «أَفْرَغُ مِنْ ذَاتِ عَمُوْد»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ فَـتَكَ بِهِ الفَرَاغ، وضَاعَ عن هَدَفِهِ وزَاغ، والعَمُوْدُ زَاوِيَةٌ في جَرِيْدَة، يَـحْتَوِي تَافِهَ الرَّأْيِ ومُفِيْدَه، وقَدْ تَـكَالَبَتْ عَلَيْهِ النِّسَاء، الـحَصِيْفَةُ مِنْهُنَّ والبَلْهَاء.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ رَجُلاً قَضَى عَلَيْهِ التَّخَصُّص، بأنْ يُدِيْمَ عَلَى كِتَابَاتِـهِنَّ التَّلَصُّص، فأَشَارَ عليهِ مَنْ إشَارَتُهُ سَخِيْفَة، بأنْ يَشْتَرِكَ في أكْثَرَ مِنْ صَحِيْفَة، فَاضْطُرَّ إلى تَـحْلِيْلِ ثَمَنِ الاشْتِرَاك، بَعْدَ أنْ وَقَعَ في الأَشْرَاك، فرَاحَ يَقْرأُ كُلَّ عَمُوْد، ويُصْغِي لِكُلِّ نَغْمَةِ عُوْد.



وبَيْنَمَـا هُوَ يُقَلِّبُ الصَّفَحَات، ويُرَجِّعُ الآهَاتِ والزَّفَرَات، صَادَفَ أكْثَرَ مِنْ زَاوِيَة، ونَخْلَةٍ جَرْدَاءَ ذَاوِيَة، ولَـمْ تَزَلْ عَيْنُهُ زَائغَة، يَقْرَأُ لِكُلِّ فَارِغَة، فلَمْ يَظْفَرْ بِسَمِيْن، ولا عِقْدٍ ثَمِيْن، ولَـمْ يَـجِدْ إلاّ الضَّجِيْج، وشِبْهَ فَوْضَى الـحَجِيْج، هَذِهِ تُطَالِبُ بِالمُسَاوَاةِ المُطْلَقَة، وتَـمْضِي في لَـجَاجِهَا مُنْطَلِقَة، وتِلْكَ تَـهْذِي بِشِعْرٍ مَكْسُور، وتَفْتَـرِي عَلَى ابْنِ مَنْظُور، وأُخْرَى تَكْتُبُ خَاطِرَةً بَارِدَة، وتَـرَى أنَّـها في القِصَّةِ رَائدَة، ورَابِعَةٌ تُـبَاهِي بِالـحِكَمِ الوَرَى، وبِجَانِبِها تَقْوِيْمُ أُمِّ القُرَى، وخَامِسَةٌ تَـتَّهِمُ الرَّجَال، بِأَنَّـهُمْ سَبَبُ الوَبَال، وسَادِسَةٌ تَزْعُمُ أَنَّـها تَـمْتَلِكُ طَاقَةً نَوَوِيَّة، وتُطَالِبُ بِـها هَيْئةُ الطَّاقَةِ الدَّوْلِيَّة، وسَابِعَةٌ تَـجْرِي مُـخْتَالَةً مَعَ المَوْضَة، وتُعْلِنُ انْضِمَامَ ابْنِها إلى الرَّوْضَة، وثَامِنَةٌ تَسْتَعْرِضُ بِأَسْفَارِها، وتَرْوِي سَخِيْفَ أَخْبَارِها، وتَاسِعَةٌ تُـخْبِرُ أنَّـها رُوْمَنْسِيَّة، ومَفْتُوْنَةٌ في المُوْسِيْقا الإيْطَالِيَّة، وعَاشِرَةٌ تَشْكُو المُضَايَقَةَ في السُّوْق، وعَارِفُهَا يُفَضِّلُ عَلَيْها النُّوْق، وثَمَّةَ مَنْ تَصِفُ عَشَاءَها في بَرْشَلُوْنَة، وهيَ قَابِعَةٌ في البَيْتِ تَأْكُلُ تُوْنَة، وهَكَذا دَوَالَيْكَ تَفَاهَة، وهَلُمَّ سُخْفاً وفَهَاهَة.



فَاسْتَرْجَعَ الرَّجُلُ وَحَوْقَل، وبَكَى عَلَيْهِنَّ وَأَعْوَل، ثُمَّ أَغْلَـقَ ما بَيْنَ يَدَيْه، وَأَنْشَدَ والدَّمْعُ مِلْءُ عَيْنَيْه:



إلَـهِيَ أَلْقَانِي التَّخَصُّصُ في الضَّنى *** وَأَرْهَقَني حِرْصِي وَطُوْلُ صُمُوْدي



وَغَيْرِي قَرِيْرٌ نَائمٌ في فِرَاشِهِ *** ويَـحْظَى بِمَا يَرْجُوهُ دُوْنَ جُهُوْدِ



يَظَلُّ معَ الآمَالِ أَكْثَرَ رَاحَةً *** وأَفْرَغَ من حَمْقَاءَ ذَاتِ عَمُوْدِ



أُتِيْحَ لَـهَا مَا لَـمْ يُتَحْ لِـمُحَنَّكٍ *** فَقَاءَتْ سَخَافَاتٍ بِكُلِّ بُرُوْدِ



وَشَجَّعَهَا مَنْ لَيْسَ يَفْقَهُ هَذْرَهَا *** فَكَمْ مِنْ ذِئابٍ صَفَّقَتْ وَقُرُوْدِ



فَلَوْ أَنَّنِي أُنْثَى لَـهَانَتْ مَتَاعِبِي *** وَطَبَّلَ لي طَبْلٌ وضارِبُ عُوْدِ



وَلَكنَّني –وَا طُوْلَ خَيْبَتِيَ– امْرُؤٌ *** لَهُ شَارِبٌ كَثٌّ، وَشَعْرُ خُدُوْدِ










14 – «أَفْقَرُ مِنْ أَدِيْب»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ أَرْبَى بِهِ الفَقْرُ عَنْ حَدِّه، فبَاعَ بالبَخْسِ ثَوْبَ أَبِيْهِ وجَدِّه، والأَدِيْبُ رَجُلٌ مُنْشَغِلٌ بِما يَنْفَعُ النَّاس، ولا يَـحْظَى بِغَيْرِ الـهَوَانِ والإفْلاس.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ رَجُلاً انْصَرَفَ إلى الأَدَب، وجَدَّ في تَـحْصِيْلِ فُنُوْنِهِ وطَلَب، فلَـمَّا فَاقَ وبَـرَع، وابْتَـكَرَ واخْتَـرَع، رَأَى أَقْرَانَهُ يَتَـبَوَّؤوْنَ المَـنَاصِب، وهوَ وَحْدَهُ في الـهَمِّ نَاصِب، هُوَ يَـجْمَعُ النُّخَب، وهُمْ يَـجْمَعُوْنَ الذَّهَب، ويَنْظِمُ القَصَائد، ويُنَظِّمُوْنَ المَوَائد، ويُبْدِعُ الرِّوَايات، ويَبْتَدِعُوْنَ الـهِوَايات، ويَنْقُدُ الأَعْمَال، ويَنْتَقِدُوْنَ المَال.



فلَـمَّا رَأَى ضَيْعَةَ حَالِه، وفَقْرَه وسُوْءَ مَآلِه، مَزَّقَ كُتُـبَهُ وأَوْرَاقَه، وأَقْسَمَ أنْ يُوَدِّعَ الفَاقَة، فاقْتَـرَضَ مِنْ ذَوِيْهِ دُرَيْـهِمَات، ووَضَعَها في المُسَاهَمَات، فمَا إنْ فَـتَحَ طَرْفَهُ وأَغْمَض، إلاّ وقَدْ أُكِلَ كالثَّوْرِ الأَبْيَض، وما كَرَّ عَلَيْهِ يَوْمَان، إلاّ وهوَ أَفْقَرُ مِـمَّا كَان، فأَدْرَكَ أنَّهُ مَنْحُوْس، لا تَنْفَعُهُ الدُّرُوْس، فعَادَ إلى حِرْفَتِه، وأَنْشَدَ مِنْ حُرْقَتِه:



لَقَدْ جَرَّبْتُ هَذَا العَيْشَ دَهْراً *** فَلَمْ أَرَ قَطُّ أَفْقَرَ مِنْ أَدِيْبِ



نَشَأْتُ عَلَى التَّأَدُّبِ مِنْ قَدِيْمٍ *** وَهَا قَدْ لاحَ لِلرَّائي مَشِيْبي



سِنُوْنَ مَضَتْ أَصُوْغُ بِـهَا اللآلِي *** وَأَنْثُرُ مِنْ فُنُوْنِي كُلَّ طِيْبِ



أُسَامِرُ لَيْلَتِي بِصَدَى القَوَافِي *** وأَصْحُو مِثْلَ مُبْتَئسٍ كَئيْبِ



أَجُوْعُ فَـآكُلُ النُّخَبَ السَّوامِي *** وإنْ أَظْمَأْ فَمِحْبَـرَتِي قَلِيْبي



وَيَبْلَى الثَّوْبُ ذُو التِّسْعِيْنَ فَتْقاً *** فَيَـبْدُو مِنْ نَوَافِذِه مَعِيْبي



وَلِي كُوْخٌ تَفِرُّ الـجِنُّ مِنْهُ *** وَلا يَدْنُو إلَيْهِ أَيُّ ذِيْبِ



وَغَيْرِي هَانِئٌ في خَفْضِ عَيْشٍ *** يُطِلُّ عَلَيَّ مِنْ قَصْرٍ مَهِيْبِ



وَيَرْمُقُنِي بِنَظْرَتِهِ احْتِقَاراً *** وَإنْ سَلَّمْتُ لَـمْ أَرَهُ مُـجِيْبي



وَمَا في رَأْسِهِ إلا هَبَاءٌ *** وَلَكِنْ لا اعْتِرَاضَ عَلَى النَّصِيْبِ



فَيَا دُنْيَا رَجَوْتُكِ عَذِّبِيْنِي *** وَيَا آلامُ وَيْـحَكِ لا تَغِيْبي






3 
مجدى سالم


15 – «إنَّ الغِنَى في الكُرَة»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ أَضْنَاهُ الكَدّ، وبَذَلَ في نَيْلِ العُلُوْمِ وجَدّ، حَتَّى إذا اسْتَـوَى عُوْدُه، ذَوَى مِنَ الـخَيْبَةِ عُوْدُه، وكَانَ حَظَّه الإفْلاسُ والتَّحْطِيْم، وفَازَ مَنْ دُوْنَهُ بِالثَّرَاءِ والتَّقْدِيْم، والكُرَةُ لُعْبَةٌ يَـحْتَرِفُها الصِّغَار، ومَنْ ذَهَبَ مِنْ عَقْلِهِ الوَقَار، وطَالَـمَا تَابَعَها حَبِيْسُ الفَرَاغ، ورُبَّـمَـا دَعَمَها خَاوِي الدِّمَاغ، وهيَ في الأَصْلِ نَشَاطٌ مَقْبُوْل، إلاّ إذا زَادَتْ عَنِ المَعْقُوْل، وقَدْ بَالَغَتْ في رِعَايَتِها جِهَات، وأُضِيْعَتْ فِيْها الأَمْوَالُ والأَوْقَات، واخْتَصَمَ بِسَبَـبِها الـجَاهِلُ والغَافِل، وغَيْرُهُما يَصْنَعُ الصَّوَارِيْخَ والقَنَابِل.



وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ عُضْوَ هَيْئةِ تَدْرِيْس، نَالَ شَهَادَةَ الدُّكْتُوْرَاهِ مِنْ بَارِيْس، وكَانَ قَدْ تَـخَصَّصَ في عِلْمِ الذَّرَّة، بَعْدَ أَنْ أَفْنَى في الاغْتِرَابِ عُمْرَه، فعَادَ إلى وَطَنِهِ مَنْشُوْرَ الـجَنَاح، وظَنَّ أَنْ قَدْ آنَ لَهُ أَنْ يَرْتَاح، ويُكْفَى مَرَارَةَ الأَيَّامِ الـخَالِيَة، بِما يَلِيْقُ بِشَهَادَتِهِ العَالِيَة، فارْتَقَبَ التَّكْرِيْمَ أَيَّ ارْتِقَاب، وتَـحَفَّزَ لِـمَلْءِ يَدَيْهِ والـجِرَاب، وحَلُمَ بِمَنْـزِلٍ يُلائمُ مَنْـزِلَـتَه، ورَاتِبٍ جَزْلٍ يُبَـرِّدُ غُلَّتَه، فلَـمَّا أَلْقَى في جَامِعَتِهِ بِرِحَالِه، جَرَى لَهُ مَا لَـمْ يَـجْرِ في بَالِه، إذْ لَـمْ يُبَارِكْ لَهُ رَفِيْعُو المَكَانَة، ولَـمْ يَسْتَقْبِلْهُ سِوَى عَامِلِ الصِّيَانَة، وظَلَّ شُهُوْراً يُرَاجِعُ عِمَادَتَه، إلى أَنِ اعْتَمَدُوا شَهَادَتَه، وأُجْرِيَ لَهُ رَاتِبٌ يَغْبِنُ القَنُوْع، لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي مِنْ جُوْع، يُـجْرَى مِثْلُهُ عَلَى الفَرَّاشِ الـجَاهِل، ولا يَـخْتَلِفُ عَنْ رَاتِبِ المُرَاسِل، وحِيْنَ أَبَانَ عَنِ الغَبْنِ وَجَلاَ، قِيْلَ لَهُ: البَابُ يَسَعُ جَمَلا، فأَغْمَضَ عَلَى غَبْنِهِ عُيُوْنَه، وظَلَّ يُسَدِّدُ لِلْغُرَمَاءِ دُيُوْنَه، واسْتَأْجَرَ مَنْـزِلاً مِنَ الفَرَّاش، وقَسَّطَ مَرْكَبَةً كَثِيْرَةَ الارْتِعَاش، ومَضَى يُـخْلِصُ في التَّدْرِيْس، ويُوْلِي بُحُوْثَهُ الـجُهْدَ النَّفِيْس.



وحَدَثَ في يَوْمٍ كَثِيْرِ العَمَل، أَنْ أَصَابَ المَغْبُوْنَ بَعْضُ المَلَل، فتَوَقَّفَ عَنْ مُوَاصَلِةِ إنْجَازِه، واسْتَرْخَى في مُشَاهَدَةِ تِلْفَازِه، فتَابَعَ حَفْلاً مُـحْتَشِدَ الأُمَم، لِفَرِيْقٍ فَازَ في كُرَةِ القَدَم، وشَاهَدَ جُمْلَةَ الوُجَهَاءِ والمَسْؤُوْلِيْن، وهُمْ يَتَنَافَسُوْنَ في احْتِضَانِ اللاّعِبِيْن، ورَآهُمْ يُقَلِّدُوْنَـهُمُ الأَوْسِمَة، ويُكَافِئوْنَـهُمْ بِالـهِبَاتِ المُتْخِمَة، ثُمَّ بَادَرَ ذَوُو الاسْتِعْرَاضِ والثَّرَوَات، ومَنَحُوْهُمْ أَفْخَمَ القُصُوْرِ والمَرْكَبَات، ثُمَّ وَثَبَ مِنَ المُقَدِّمَةِ وَاثِب، وعَـرَضَ المَلايِـيْنَ في شِرَاءِ لاعِب، فزَادَ عَلَى سَوْمِهِ ذُو عَبَاءةٍ سَمِيْن، وقَدَ ضَاعَفَ لَـهُمْ عَدَدَ المَلايِـيْن.



وأَثْنَاءَ مَا كَانَ الـحَفْلُ عَلَى أَشُدِّه، فَقَدَ صَاحِبُنا المَغْبُوْنُ كُلَّ رُشْدِه، وهَشَّمَ تِلْفَازَهُ بِمِحْبَـرَةٍ أَمَامَه، وقَامَ يَـجْرِي طَيْشاً كَالنَّعَامَة، ولَـمْ يَعُدْ يُسَيْطِرُ عَلَى ذَاتِه، وبَلَّ في المَاءِ شَهَادَاتِه، ثُمَّ ارْتَدَى مَلابِسَ رِيَاضَة، وأَكْمَلَ في الشَّارِعِ تَرْكَاضَه، وكَانَ وهوَ يَـجْرِي يَصِيْح، ويُنْشِدُ بِصَوْتٍ فَصِيْح:



يَا مُنْكِراً رَكْضِـيَ وَيْكَ الْتَمِسْ *** عُذْراً، فَعَقْلـِي فَاقِدٌ رُشْدَهْ



أَمَا تَـرَانِي لابِساً بِزَّةً *** لابِسُهَا يَـبْـنِي بِـهَا مَـجْدَهْ؟



وَيَـجْتَنِي التَّكْرِيْمَ مِنْ سَادَةٍ *** يُنِـيْلُهُ كُلُّهُمُ رِفْدَه



وَلَوْ رَأَوا مِثْلـِي امْرَأً عَالِـماً *** يَرُوْمُ وَصْلاً صَفَعُوا خَدَّهْ



أَرْهَقَنِي دَيْنِي وَطُلاّبُهُ *** وَرَاتِبِي لا يَمْلأُ المِعْدَةْ



وَمَنْـزِلِي البَائسُ مُسْتَأْجَرٌ *** مِنْ جَاهِلٍ كَمْ أَتَّقِي طَرْدَهْ



يَعْمَلُ عِنْدِي في الضُّحَى خَادِماً *** ثُمَّتَ أُمْسِي خَادِماً عِنْدَهْ



وَأَمْتَطِي مَرْكَبَةً عَاصَرَتْ *** نُوْحاً، وَحَتْماً أَدْرَكَتْ جَدَّهْ



طَحَالِبُ الطُّوْفَانِ في مَتْنِها *** عَالِقَةٌ لَـمْ تَـمْحُهَا المُدَّةْ



وَإنْ أَتَى الصَّيْفُ تَدَيَّنْتُ مِنْ *** أَقَارِبِي وَاصْطَفْتُ في جُدَّةْ



وَهِمْتُ في البِيْدِ بِرَعَّاشَةٍ *** كَأَنَّمَا تَشْكُو مِنَ الرِّعْدَةْ



وَانْظُرْ بِعَيْنَيْكَ فَكَمْ لاعِبٍ *** لا يَعْرِفُ الضَّمَّةَ وَالشَّدَّةْ



تُبْصِرُهُ يَرْفُلُ في نِعْمَةٍ *** وَيَأْكُلُ اللَّحْمَةَ وَالزُّبْدَةْ



وَيَمْلِكُ الدُّوْرَ، ولا يَمْتَطِي *** إلاّ جَدِيْداً بَالِغَ الـجِدَّةْ



يَا بُعْدَ أَنْ يَصْطَافَ إلاّ إذَا *** خَصُّوْا لَهُ طَائرَةً وَحْدَهْ



فَـتَارَةً يَصْطَافُ في لَنْدَنٍ *** وَتَارَةً يَقْصِدُ أُوْغَنْدَةْ



فَارْكُلْ شَهَادَاتِكَ إنَّ الغِنَى *** في الكُرَةِ المَرْكُوْلَةِ الـجِلْدَةْ



وَالْعَبْ كَمَعْتُوْهٍ بِهِ جِنَّةٌ *** وَقَلِّدِ الـهِرَّةَ وَالقِرْدَةْ



وَوَدِّعِ الـحِشْمَةَ تَـبّاً لَـهَا *** وَلامْرِئٍ يَأْخُذُهَا عُدَّةْ



فَحِيْنَـهَا تُصْبِحُ ذَا ثَرْوَةٍ *** وَيَصْطَفِيْكَ الشَّيْخُ وَالعُمْدَةْ







16 – «بَوَارٌ وَلا بَوَارُ الفَصِيْح»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ قَعَدَ بِهِ حَظُّه، وارْتَدَّ عَلَيْهِ في الضِّيَاءِ لَـحْظُه، وكَانَ ذَا حَسَبٍ واقْتِدَار، ورَايَةٍ لا يُشَقُّ لَـها غُبَار، والفَصِيْحُ نَعْتٌ لِـمُضْمَرٍ ضَامِر، تَقْدِيْرُهُ: الشِّعْرُ أَوِ الشَّاعِر.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ رَجُلاً فَـتَحَ اللهُ عَلَيْه، وجَعَلَ الشِّعْرَ طَوْعَ لِسَانِهِ ويَدَيْه، وكَانَ في زَمَنٍ كَثُرَ فيهِ اللُّكَنَاء، وغَلَبَ أَمْرُهُمْ عَلَى الفُصَحَاء، فكَانَ كُلَّـمَا أَنْشَدَ شَيْئاً مِنْ شِعْره، أُلْقِمَ حَجَراً في ثَغْرِه، وكُلَّـمَا بَعَثَ قَصِيْدَةً إلى المَجَلات، وضَعُوْها في سَلَّةِ المُهْمَلات، وكُلَّـمَا غَنَّى بِشِعْرِه عِلْيَةَ القَوْم، أَسْلَمُوا عُيُوْنَـهُمْ لِلنَّوْم، وَسِوَاهُ يَـحْظَى بِأَثْمَنِ الـجَوَائز، حِيْنَ يَـرْطُنُ رَطَانَـةَ العَجَائز، ويُقَدَّمُ في كُلِّ المُـنَاسَبَات، وهوَ يُـرْمَى عَلَى العَتَـبَات.



وقدْ ضَاعَفَ مِنْ هَمِّه، وزادَ في ضُمُوْرِهِ وسُقْمِه، أنَّ لهُ ابْنَةً اسْمُها دَلال، وكانَتْ آيةً في الـجَمَـال، وتَـتَنَاقَلُ صِفَاتِـها الأَلْسِنَة، بَيْدَ أنَّـها بَلَغَتْ ثَلاثِيْنَ سَنَة، ولَـمْ يَطْرُقْ بَابَـها خَاطِب، ولا اقْتَـرَبَ مِنْ شَجَرَتِـها حَاطِب، وكانَتْ لَـها جَارةٌ قَبِيْحَةُ الشَّكْل، عُرِفَتْ بِـبَذَاءةِ القَوْلِ والفِعْل، وصِيْتُها سَـيِّءٌ خَامِل، وفي وَجْهِها ثَـآلِيْلُ ودَمَامِل، وليسَ لَـها عَنِ النَّاسِ حِجَاب، وخُطّابُـها حَوْلَـها مِنْ كُلِّ بَاب، فَمُذْ رَأَى الشاعرُ فَلْذَةَ كَبِدِه، تَبْكِي لِكَمَدِها وكَمَدِه، رَبَتَ عَلَى كَتِفِها وذَهَب، وأَحْضَرَ الدَّوَاةَ وكَتَب:



اسْفَحِي يا دَلالُ دَمْعَكِ وابْكِي *** وتَشَكَّي جَوْرَ الزَّمَانِ القَبِيْحِ



خَفِّفِي بِالبُكَاءِ حُزْنَكِ هَذا *** وَأَرِيْـحِيْنِي مِنْ ضَنىً وَاسْتَـرِيْـحي



بَادِلِيْنِي الشَّجَا أُبَادِلْكِ ضِعْفاً *** لَيْسَ يَـجْرِي السَّفِيْنُ مِنْ غَيْـرِ رِيْحِ



وَهَلُمِّي إلَـيَّ نَشْكُ انْتِكَاساً *** وَجُـمُوْداً مِنَ النَّصِيْبِ الشَّحِيْحِ



فَكِلانَا لَهُ مُصَابٌ، وَيُـخْفِي *** في حَشَاهُ أَنِيْنَ قَلْبٍ جَرِيْحِ



يَقْعُدُ الـحَظُّ بِالـجَدِيْرِ! ويَسْعَى *** بِالأَمَانِي الـحِسَانِ نَحْوَ الكَسِيْحِ!



رَدِّدِي مِثْلِي: إنَّنَا في زَمَانٍ *** ذَائدٍ عَنْ نَطِيْحَةٍ وَنَطِيْحِ



يَا كَسَاداً وَلا كَسَادَ دَلالٍ! *** وَبَوَاراً وَلا بَوَارَ الفَصِيْحِ!









17 – «تَأَنَّثْ أَنْتَ في زَمَنِ الإنَاث»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ جَارَ عَلَيْهِ زَمَانُه، وهَوَى بِهِ مِنْ عَلْيَائهِ مَكَانُه، واسْتَلَبَ مَنْ دُوْنَهُ سَيْفَهُ وغِمْدَه، وصَارَ فَضْلَةً وقَدْ كَانَ عُمْدَة، وزَمَنُ الإنَاثِ عَصْرٌ وَاهي الـهَيْبَة، يُـجَرِّرُ رِجَالُهُ أَذْيَالَ الـخَيْبَة، فِيْهِ النِّسَاءُ مُسَيْطِرَة، وتَلْبَسُ جِلْدَ القَسْوَرَة.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ حَكِيْماً في زَمَنٍ غَابِر، كَـبَا بِهِ في الـهَوَانِ حَظٌّ عَاثِر، فعَاشَ في عَصْرٍ رَدِيْءٍ رَثّ، الأَمْرُ والنَّهْيُ فيهِ للمُؤَنَّث، رِجَالُهُ سُلِبُوا سُلْطَةَ القِوَامَة، وأُلْقُوا عَلَى أَعْقَابِـهِمْ في القُمُامَة، وصَارَتِ النِّسَاءُ فيهِ مُسْتَـرْجِلات، وفي مَيَادِيْنِ الوَقَاحَةِ صَائلات، يَلْهَجْنَ بِالمُسَاوَاةِ والتَّحْرِيْر، وعُقُوْلُـهُنَّ أَرَقُّ مِنْ قِطْمِيْر، لَـهُنَّ أَلْسِنَةٌ مِثْلُ الأَسْيَاف، وأَقْلامٌ تَنْفُثُ السُّمَّ الزُّعَاف، نَازَعْنَ الرِّجَالَ في الـحُقُوْق، وأَبْدَيْنَ لَـهُمْ أَعْظَمَ العُقُوْق، وَبَطَشْنَ فِيْهِمْ بَطْشَ الـحَجَّاج، ونَادَيْنَ إلى تَعَدُّدِ الأَزْوَاج، وتَطَلَّعْنَ إلى المَـنَاصِبِ الـحَسَّاسَة، ولَـمْ يَسْلَمْ مِنْهُنَّ كُرْسِـيُّ الرِّئاسَة، وأَوْكَلْنَ بُيُوْتَـهُنَّ إلى الـخَادِمَات، وهِـمْنَ عَلَى وُجُوْهِهِنَّ مُطَالِبَات، تَدْفَعُهُنَّ الغَيْرَةُ والمُشَاكَسَة، وما ثَمَّ وُجُوْهٌ لِلْمُنَافَسَة، وفي التَّظَلُّمَاتِ يَرْدَحْنَ بِالرَّقْص، يَـحْمِلُهُنَّ إلَيْها الإحْسَاسُ بِالنَّقْص، تَـتْرُكُ إحْدَاهُنَّ المَطْبَخَ والتَّـنُّوْر، ثُمَّ في حَلْقَةِ الفَرَاغِ تَدُوْر، وحِيْنَ تَلْسَعُها الزَّنَابِيْر، تَقُوْلُ: رِفْقاً بِالقَوَارِيْر.



ومِـمَّا زَادَ منْ هَمِّهِ وأَشْجَاه، أنَّ رِجَالَ عَصْرِهِ أَشْبَاه، فكَانُوا يُسَايِرُوْنَـهُنَّ ويُـجَارُوْن، ويُمْسِكُوْنَ لَـهُنَّ المَاعُوْن، وهُنَّ يَقْذِفْنَ عَلَيْهِمْ بِالقَلِيْل، ويُـهَدِّدْنَـهُمْ بِالصُّرَاخِ والعَوِيْل، فنِلْنَ بِذَلِكَ أَرْقَى الوَظَائف، واجْتَنَيْنَ أَحْلَى ما يَـجْتَـنِيْهِ قَاطِف، وإذا رَضِيْنَ عَلَى رَجُلٍ رَفَعْنَه، وإنْ سَخِطْنَ عَلَى آخَرَ وَضَعْنَه، ولَـمْ يَنَلِ الرِّجَالُ عَالِيَ الرُّتَب، إلاّ إذا رَبَطَهُمْ بِالكَرِيْمَاتِ نَسَب، وأَصْبَحَ لِلضَّمِيْرِ المُؤَنَّثِ المُسْتَـتِر، أَشَدُّ مِنْ تَأْثِيْـرِ السَّاحِرِ الأَشِر، ولَـمْ يَعُدْ لِلرَّجُلِ قِيْمَة، مِثْلُهُ مِثْلُ البَهِيْمَة، فلَوْ تَأَخَّرَ عَنِ الاحْتِرَاث، لَطُلِّـقَ مِنْ فَوْرِهِ بِالثَّلاث، وحَدَثَ أنْ ثَارَ ثُلَّةُ أَبْطَال، ونَادَوا بِـبَعْضِ حُقُوْقِ الرِّجَال، وطَمِعُوا بِشَيْءٍ مِنَ المُوَاسَاة، ولَـمْ يَتَطَلَّعُوا قَطُّ إلى المُسَاوَاة، فتَـرَبَّصَ بِـهِمْ بَنَانٌ مَـخْضُوْب، وأَبَادَهُمْ بَيْنَ مَشْنُوْقٍ ومَصْلُوْب.



أمّا الـحَكِيْمُ فهَجَرَ عَصْرَهُ وما فيه، وانْشَغَلَ عنهُ بِتَصَانِيْفِهِ وقَوَافِيْه، وكَانَ مِنْ ذائعِ مُؤَلَّفَاتِه، ونَافِعِ حِكَمِهِ ولَفَـتَاتِه:، «مَا فَاتَ الـجَمَـاعَة، مِنْ عَلامَاتِ السَّاعَة،» و«اسْتِـنْسَارُ البُغَاث، في دَوْلَةِ الإنَاث،» و«بُلْغَةُ الغَرْثَى، فِيْمَنْ رَفَعَتْهُ أُنْثَى،» ولَهُ مِنَ القَوَافي السَّيَّارَة، نُخَبٌ وَافِرَةٌ مُـخْتَارَة، ومِنْ أَشْهَرِ مَا وَشَّاه، قَوْلُهُ رَحِمَهُ الله:



أيَا مُرْخِي شَوَارِبَهُ اخْتِيَالاً *** تَأَنَّثْ أَنْتَ في زَمَنِ الإنَاثِ



أَتَى زَمَنٌ تُعَدِّدُ فِيْهِ أُنْثَى! *** وإنْ تَغْضَبْ تُطَلِّقْ بِالثَّلاثِ!



زَمَانٌ مِثْلُ ذَا زَمَنٌ رَدِيْءٌ *** يَطِيْبُ لِـمَنْ يَعِيْشُ بِلاَ اكْتِرَاثِ



تُسَيِّـرُنَا بِهِ مُسْتَـرْجِلاتٌ *** جَثَـثْنَ شُمُوْخَنَا شَرَّ اجْتِثَاثِ



وَمِنْ عَجَبِي يُسَانِدُهُنَّ قَوْمٌ *** يُسَارُ بِـهِمْ كَثِيْرَانِ احْتِـرَاثِ!



زَمَانِي شُهْتَ مِنْ زَمَنٍ قَبِيْحٍ *** يَذِلُّ النِّسْرُ فِيْهِ لِلْبُغَاثِ



فَلَوْ عَصْرِي كَعَصْرِ أَبِي وَجَدِّي *** لَـمَا وَلْوَلْتُ في هَذِي المَرَاثي



فَيَا لَـلَّـهِ مَا أَشْقَى زَمَانِي *** وَأَكْثَرَ مَا أَحِنُّ إلى تُـرَاثي











18 – «جَنَى عَلَيْهِ الـجِوَار»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ في الأَذَى غَيْرِ المُـتَوَقَّع، وفي الضَّرَرِ مِمَّنْ يَـخَالُهُ النَّاسُ يَنْفَع، والـجِوَارُ قُرْبُ الدَّارِ مِنَ الدَّار، وجَاوَرَ الرَّجُلُ قَوْماً فهوَ جَار، ولِلْجِوَارِ آدَابٌ وسُنَن، يَقُوْمُ بِحَقِّها مَنْ فَطَن، وثَمَّةَ مَنْ يُغْفِلُ تِلْكَ الـحُقُوْق، ويُرِي جِيْرَانَهُ كُلَّ العُقُوْق، فيُطْلِقُ صِبْيَتَهُ كَالنِّعَاج، أَوْ يُسْمِعُهُمْ مِنْهُ الإزْعَاج.



وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ رَجُلاً نَـهَاهُ الثِّقَات، أَنْ يُـجَاوِرَ مَنْ يُـخَالِفُوْنَهُ في العَادَات، ولَكِنَّهُ لِقِلَّةِ ما في جِرَابِه، أَعْرَضَ عَنْ نُصْحِ أَحْبَابِه، فسَكَنَ حَيّاً غَيْرَ مُنَظَّم، يَـجْرِي في شَوَارِعِهِ الدَّم، فأَغَلَـقَ بَابَ بَيْتِهِ عَلَيْه، وكَفَّ أَذَاهُ عَمَّنْ حَوَالَيْه، وبَيْنَمَـا هُوَ يَسْأَلُ اللهَ اللُّطْف، إذْ طُرِقَ بَابُ بَيْتِهِ بِعُنْف، فاسْتَطْلَعَ الأَمْرَ في حِيْنِه، فإذا صَبِيٌّ يُشِيْرُ بِسِكِّيْنِه، وفي وَجْهِهِ جُرُوْحٌ وحُرُوْق، وثَوْبُهُ عَلَى المَتْنِ مَشْقُوْق، ثُمَّ أَمَرَهُ مِنْ غَيْرِ مَعْذِرَة، أَنْ يُـحْضِرَ مِنْ فِنَائهِ الكُرَة، فلَمْ يَـجِدْ بُدّاً مِنْ إخْبَارِ أَبِيْه، عَمَّا رَآهُ مِنِ ابْنِهِ السَّفِيْه، فرَمَقَهُ الأَبُ وهوَ جَاحِظُ العُيُوْن، وصَاحَ في وَجْهِهِ: صِبْيَةٌ يَلْعَبُوْن، وفي اليَوْمِ الثَّاني خَرَجَ الـجَار، فوَجَدَ مَرْكَبَتَهُ عَلَى الأَحْجَار، إطَارَاتُـها الأَرْبَعَةُ مَسْلُوْبَة، وزُجَاجَتُهَا الـخَلْفِيَّةُ مَثْقُوْبَة، وفي اليَوْمِ الثَّالِثِ أَقْبَلَ وَلَدُه، والدِّمَاءُ يَسِيْلُ بِـها جَسَدُه، وذَكَرَ أَنَّهُ تَعَرَّضَ لاعْتِدَاء، مِنْ ثَلاثَةِ صِبْيَةٍ أَشْقِيَاء، ومَرَّتِ الأَيَّامُ تِلْوَ الأَيَّام، والـجَارُ يُعَانِي أَذَى اللِّئام، والآبَاءُ يُرَدِّدُوْن:، صِبْيَةٌ يَلْعَبُوْن.



وحِيْنَئِذٍ قَرَّرَ الـجَارُ أَنْ يُنَازِل، ويَضَعَ حَدّاً لِـهَذِهِ المَهَازِل، فلَمْ يُعَالِجِ الغَلْطَةَ بِغَلْطَة، وذَهَبَ شَاكِياً إلى الشُّرْطَة، فبَاحَ لَـهُمْ بِـمَا أَرَّقَ بَالَه، وأَخْبَـرَ بِكُلِّ مَا جَرَى لَه، فلَمْ يَزِيْدُوا أَنْ نَظَرُوا إلَيْه، وقَالُوا والدَّمْعُ مِلْءُ عَيْنَيْه:



احْـمَدِ اللهَ عَلَى النَّجَاة، فغَيْرُكَ عَانَى أَشَدَّ المُعَانَاة، ولَيْسَ في وُسْعِنَا يَا مَغْبُوْن، أَنْ نَرْدَعَ صِبْيَةً يَلْعَبُوْن، فإنْ شِئْتَ أَلاّ تَقُوْلَ: (لَيْت)، فَاغْنَمِ السَّلامَةَ وبِـعِ البَيْت.



فعَلِمَ المَغْبُوْنُ أَنَّـها الغَنِيْمَة، وبَاعَ بَيْتَهُ بِرُبْعِ القِيْمَة، ثُمَّ حَمَلَ صِغَارَهُ ومَتَاعَه، وأَنْشَدَ وهوَ يَصْلَى الْتِيَاعَه:



سَكَنْتُ حَيّاً رَخِيْصاً *** لَـمَّا تَغَالَى العَقَارُ



فَكَانَ أَسْوَأَ حَيٍّ *** سُكْنَاهُ بُؤْسٌ وعَارُ



لِـلَّـهِ كَمْ بِتُّ فِيْهِ *** وخَافِقِي مُسْتَطَارُ



جَاوَرْتُ فِيْهِ أُنَاساً *** الشَّرُّ فِيْهِمُ فَخَارُ



صِبْيَانُـهُمْ في النَّوَاحِي *** مُفَلَّتُوْنَ نِثَارُ



في وَجْهِ كُلِّ صَبِيٍّ *** حَدَائقٌ وَقِفَارُ



وفي الـجُيُوْبِ سِلاحٌ *** ومُدْيَةٌ وَعُقَارُ



وَإنْ تُـخَبِّرْ ذَوِيْـهِمْ *** عَنْهُمْ يَنَلْكَ شَرَارُ



فَكَمْ أُعَانِي أَذَاهُمْ *** وَكَمْ يُعَانِي الصِّغَارُ



وَنَالَ مَرْكَبَتِي مِنْ *** أَذَى الوُحُوْشِ الدَّمَارُ



فَلِلْوَقُوْدِ امْتِصَاصٌ *** وَلِلزُّجَاجِ انْكِسَارُ



وطَالَـمَا رَفَعُوْهَا *** وَسُلَّ مِنْهَا إطَارُ



قِدْماً نَـهَانِي ثِقَاتٌ *** فَكَانَ مِنِّي اغْتِرَارُ



وهَا أَنَا بِعْتُ بَيْتِي *** وصَارَ حَظِّي الـخَسَارُ



فَدُوْنَكَمْ مَا دَهَانِي *** وَلْيَبْدُ مِنْكُمْ حِذَارُ



وَارْثُوا لِـحَالَةِ جَارٍ *** جَنَى عَلَيْهِ الـجِوَارُ







19 – «حِجَاجٌ وَلا حِجَاجُ بَخِيْل»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ يُغَالِطُ بِالـجَدَل، وأُوْتِـيَ بَـرَاعَةَ الـخَلْطِ والدَّجَل، فظَنَّ أَنَّ حُجَجَهُ مَسْقُوْفَةُ البُيُوْت، وهيَ أَوْهَنُ مِنْ بَيْتِ العَنْكَبُوْت، والبَخِيْلُ مَـخْذُوْلٌ أُعْطِيَ الفَضْل، فبَخِلَ وأَمَرَ النَّاسَ بِالبُخْل، حَرَمَهُ اللهُ مُتَعَ الـحَيَاة، ووَارِثُهُ يَتَمَنَّى لَهُ الوَفَاة، يُـحِبُّ أَنْ يَكُوْنَ عَالَةً عَلَى غَيْرِه، ولا سَبِيْلَ إلى النَّيْلِ مِنْ خَيْرِه، وقَدْ يَتَـمَادَى بِهِ الـخِذْلان، فيَـرَى أَنَّهُ أَكْرَمُ إنْسَان، ولَهُ في التَّسْوِيْغِ والادِّعَاء، حُجَجٌ لَيْسَ لَـها انْتِهَاء.



وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ رَجُلاً مَسْتُوْرَ الـحَال، ابْتُلـِيَ بِصَاحِبٍ أَثْقَلَ عَلَيْهِ أَيَّ إثْقَال، وهوَ مَعَ إثْقَالِهِ وإمْلالِه، يَدَّعِي القِلَّةَ في مَالِه، وصَاحِبُهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذَّاب، وأَنَّ أَمْوَالَهُ يَنُوْءُ بِـها الـحِسَاب، ولَكِنَّهُ رَاعَى مُوْجِبَاتِ الصَّدَاقَة، ورَأَى أَنْ يَكْفِيَهُ وَهْمَ الفَاقَة، ودَامَ مَعَهُ عَلَى هذا الـحَالِ المَهِيْن، وشَاهَدَ مِنْهُ مَا يُزْرِي ويَشِيْن، فمَتَى اصْطَحَبَا في الأَسْفَار، كَفَاهُ الكُلْفَةَ غَيْرَ مُـخْتَار، وادَّعَى أَنَّ رَغْبَتَهُ في السَّفَرِ قَلِيْلَة، وأَنَّهُ لَـمْ يُسَافِرْ إلاّ لِيُجَامِلَ خَلِيْلَه، وإذا ذَهَبَا إلى مَطْعَم، تَـحَمَّلَ عَنْهُ المَغْرَم، ورُبَّمَـا أَخَذَتِ اللَّئيْمَ نَشْوَةُ الكِرَام، فوَثَبَ عِنْدَ الـحِسَابِ إلى الـحَمَّام، ثُمَّ أَقْبَلَ يَلُوْمُ صَاحِبَهُ عَلَى الاسْتِعْجَال، ويَقُوْلُ: لَوْ تَـرَكْتَنِي أَدْفَعُ عَنْكَ المَال، ولَكِنْ في المَـرَّةِ القَادِمَةِ بِإذْنِ مَوْلاي، لَنْ يَتَحَمَّلَ ثَمَنَ الطَّعَامِ سِوَاي، وعِنْدَما يَـحِيْنُ اليَوْمُ المَوْعُوْد، يَدَّعِي اللَّئيْمُ نِسْيَانَ النُّقُوْد، وهَكَذا كَانَ في تَوَاكُلِهِ ومَعَاذِيْرِه، وصَاحِبُهُ يَكْتُمُ عَنْهُ لَظَى سَعِيْرِه.



وحِيْنَ طَفَحَ بِصَاحِبِنا الكَيْل، وغَمَرَهُ مِنْ لُؤْمِ صَاحِبِهِ سَيْل، قَرَّرَ أَنْ يُصَارِحَهُ بِعَيْبِه، وبِعِلْمِهِ عَنِ المَخْبُوْءِ في جَيْبِه، وأَنْ يُبَـيِّنَ لَهُ أَنَّ الصُّحْبَة، مُشَارَكَةٌ في اليُسْرِ والكُرْبَة، وأَنَّ التَّوَاكُلَ مَعَ الاقْتِدَار، مِنْ شِيَمِ ذَوِي الصَّغَار، ولَـمَّا طَرَحَ عَلَيْهِ هَذِهِ المآخِذ، انْتَفَشَ اللَّئيْمُ انْتِفَاشَ القَنَافِذ، ثُمَّ كَشَّرَ عَنْ أَنْيَابِ غُوْل، وانْثَـنَى في مَعْرِضِ الـجَدَلِ يَقُوْل:



وَيْـحَكَ كَأَنَّكَ تَرْمِيْنِي بِالبُخْل، وتَـجْحَدُ مِنِّي مَا لَقِيْتَهُ مِنْ بَذْل!، أَتُنْكِرُ أَيُّـها اللَّئيْمُ الـجَاحِد، أَنَّنِي كُنْتُ لَكَ خَيْرَ مُسَاعِد؟!، أَنَسِيْتَ يَوْمَ سُرِقَ جَوَّالُك، وسَاءتْ بِسَرِقَتِهِ أَحْوَالُك، أَنَّنِي أَتَـحْتُ لَكَ جَوَّالِي مَرَّتَيْن، فهَاتَفْتَ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ دَقِيْقَـتَيْن؟!، أَمْ نَسِيْتَ يَوْمَ شَرِبْنَا الشَّايَ قَبْلَ سَنَوَات، ولَـمْ تَعْمَلْ بِطَاقَةُ ائتِـمَانِكَ رَغْمَ المُحَاوَلات، فقُلْ لِي مَنْ دَفَعَ الدِّرْهَمَيْن، يا صَاحِبَ الزَّيْفِ والمَيْن؟!، أَمْ نَسِيْتَ يَوْمَ كُنْتَ تَـمْشِي وَرَائي، فَقَطَعْتَ دُوْنَ أَنْ تَدْرِيَ حِذَائي، فاكْتَفَيْتُ مِنْكَ بِالتَّعْوِيْضِ الزَّهِيْد، ولَـمْ أُطَالِبْكَ بِثَمَنِ حِذَاءٍ جَدِيْد؟!، أَظُنُّكَ تَذْكُرُ كُلَّ هَذا وأَكْثَر، فلِمَ تَرْمِيْنِي بِمَا فِيْكَ مِنْ مُنْكَر؟!، وإنْ كُنْتَ تَنْقِمُ عَلَيَّ الاقْتِصَاد، فقَدْ حَثَّ إلَيْهِ خَيْرُ العِبَاد، ومَعَ ذَلِكَ فإنَّنِي أَخْشَى العِقَاب، لِكَثْرَةِ تَبْذِيْرِي يَوْمَ الـحِسَاب، فأَنَا أُنْفِقُ إنْفَاقَ مَنْ لا يَـخْشَى الفَقْر، وأُبَادِرُ إلى سَدَادِ فَوَاتِيْرِي كُلَّ شَهْر، واسْأَلْ عَنْ جُوْدِي البَعُوْض، وكَيْفَ أَدَعُهُ في دَمِي يَـخُوْض، وإنِ اسْتَـكْثَـرْتُ في المُبِيْدِ الأَثْـمَان، فلأَنَّ عِلاجَ المُسْتَشْفَى بِالمَجَّان، وهَلْ تَعْلَمُ أَنَّنِي إنْ فَاتَـتْنِي وَلِيْمَة، بَذَلْتُ في شِرَاءِ الـخُبْزِ أَيَّةَ قِيْمَة؟!، وأَنَّنِي أُغَيِّـرُ ثَوْبِي قَبْلَ أَنْ يَتَمَزَّق، ولا أَرْتُقُهُ وهوَ قَابِلٌ أَنْ يُرْتَق؟!، فقُلْ لِي وَيْـحَكَ أَيَّ بُخْلٍ عَنَيْت؟!، وأَيَّةَ فِرْيَةٍ عَلَيَّ قَدِ افْتَـرَيْت؟!، فوَاللهِ إنِّي بَدَأْتُ أُوْجِسُ مِنْكَ خِيْفَة، لِـهَوْلِ مَا ادَّعَيْتَ في فِرْيَتِكَ السَّخِيْفَة، والأَرْجَحُ عِنْدِي أَنَّكَ طَامِع، وتَرْجُو مِنْ مَالي المَـنَافِع، وتُرِيْدُ أَنْ تَسْتَغِلَّ كَرَمِي، وتَـمْتَصَّ أَنْتَ والبَعُوْضُ دَمِي، فاذْهَبْ هَذا فِرَاقُ بَيْنِي وبَيْنِك، لا تَـرَكَ اللهُ سَوَاداً في عَيْنِك، ولَنْ أُبِيْحَكَ مِنْ أُجْرَةِ هَذْرِكَ في جَوَّالي، ولا مِنْ قِيْمَةِ الشَّايِ وحِذَائي البَالي، فإنْ كُنْتَ نَبِيْلاً وذا إبَاء، فرُدَّ عَلَيَّ أَثْـمَانَ هَذِهِ الأَشْيَاء، وإلاّ فأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُـجَازِيَكَ عَلَى اسْتِغْلالِك، وأَنْ يُـرِيَكَ –كَمَا عَقَقْتَنِي– عُقُوْقَ عِيَالِك.




وبَيْنَمَـا البَخِيْلُ في لَـجَاجِهِ مُنْهَمِك، إذِ انْتَابَتْ صَاحِبَنا نَوْبَةُ ضَحِك، وأَدْرَكَ أَنَّ البُخْلَ ابْتِلاء، وأَنَّ أَهْلَهُ أَبْلَغُ البُلَغَاء، حَرَمَهُمُ اللهُ السَّمَاحَة، ووَهَبَهُمْ بَلِيْغَ الفَصَاحَة، عَلَى أَنَّ فَصَاحَتَهُمْ لَـجَاج، وحِجَاجَهُمْ بَقْبَـقَةُ دَجَاج، فوَدَّعَهُ ولَـمْ يَنْوِ قَطِيْعَتَه، ثُمَّ رَفَعَ بِالإنْشَادِ عَقِيْرَتَه:



وَخَلِيْلٍ بُلِيْتُ مِنْهُ بِشُحٍّ *** وَاتِّكَالٍ، فَيَا لَبَلْوَى الـخَلِيْلِ



يَدَّعِي الفَقْرَ وَهْوَ مُثْرٍ، وَيُلْقِي *** فَوْقَ ظَهْرِي بِكُلِّ حِـمْلٍ ثَقِيْلِ



ذَاتَ يَوْمٍ لَـمَحْتُ كَشْفَ حِسَابٍ *** بِاسْمِهِ يَنْـتَهِي بِرَقْمٍ طَوِيْلِ



فَـتَغَاضَيْتُ عَنْ خَسَاسَةِ خِلِّي *** وَتَساخَيْتُ رَغْمَ دَخْلـِي القَلِيْلِ



كَمْ لَيَالٍ أَنْفَقْتُ فِيْها عَلَيْهِ *** وَصَنَعْتُ الـجَمِيْلَ تِلْوَ الـجَمِيْلِ



لَوْ أَبُوْهُ قَارُوْنُ لَـمْ يَـحْتَمِلْهُ *** فَلِيَ اللهُ مِنْ صَدِيْقٍ نَبِيْلِ



حِيْنَمَـا لُـمْتُهُ عَلَى البُخْلِ يَوْماً *** ثَارَ في وَجْهِي بِالـخَنَا وَالعَوِيْلِ



وَمَضَى يَسْتَعِيْدُ مَا نِلْتُ مِنْهُ *** مِنْ نُفَاثَاتِ جُوْدِهِ وَالضَّئيْلِ



وَنَـفَى كُلَّ بُخْلِهِ، وَرَمَانِي *** بِالذِي فِيْهِ.. يَا لَهُ مِنْ عَلِيْلِ!



بَارِعٌ في لَـجَاجِهِ وَالدَّعَاوَى *** مَا لَهُ في بِيَانِهِ مِنْ مَثِيْلِ



أَيْنَ سَحْبَانُ عِنْدَهُ؟ أَيْنَ قُسٌّ؟ *** أَيْنَ عَنْهُ أَفْذَاذُ ذَاكَ الرَّعِيْلِ؟



لَوْ رَأَوْا مِثْلَهُ حِجَاجاً لَقَالُوا: *** يَا حِجَاجاً وَلا حِجَاجَ بَخِيْلِ









20 – «دَعَاوَى صَحَفِيّ»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ في الإشَاعَات، والكَلامِ المَبْنِيِّ عَلَى المُبَالَغَات، والصَّحَفِيُّ عَامِلٌ في جَرِيْدَة، يَطْلُبُ مِنْهُ رُؤَسَاؤهُ جَدِيْدَه، وقَدْ تَضِيْقُ بِـبَعْضِ الصَّحَفِيِّـيْنَ الأَخْبَار، فيُضَخِّمُوْنَ النَّمْلَةَ ويُـجِلُّوْنَ الـحِمَار، وطَالَـمَا عَبَثُوا بِالقَارِئِ المِسْكِيْن، وخَادَعُوْهُ بِمُفَرْقَعَاتِ العَنَاوِيْن، ورُبَّمَـا حَمَلَتْهُمْ رَغْبَةُ المَطْعَم، إلى تَغْطِيَةِ عُرْسٍ ومَأْتَم، فالْتَقَطُوا صُوَراً لِلزَّوْجِ ولِلثَّاكِل، ثُمَّ الْتَـهَمُوا ما طَابَ مِنْ مَآكِل.



وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ رَجُلاً وَافِرَ الـحَصَافَة، جَاوَرَ أَحَدَ العَامِلِيْنَ في الصَّحَافَة، فكَانَا إذا اجْتَمَعَا في دَار، هَذَرَ الصَّحَفِيُّ عَلَى الـجَار، وأَخَذَ يُسْمِعُهُ الفَضَائح، ويَنْتَقِدُ الغَادِيَ والرَّائح، ويُـهَوِّلُ صَغِيْرَاتِ الأُمُوْر، ويَـخْلِطُ اللُّبَابَ بِالقُشُوْر، وإذا خَرَجَتْ جَرِيْدَةُ الصَّبَاح، قَرَأَ لَهُ فِيْها العَوِيْلَ والصِّيَاح.



وكَانَ في حَيِّهِمَا بُسْتَان، حَافِلٌ بِكُلِّ مَا رَاقَ وزَان، يَقْصِدُهُ الأَطْفَالُ والنِّسَاء، ويَبْقَوْنَ فِيْهِ حَتَّى المَسَاء، وحَدَثَ أَنْ سَقَطَ صَبِيٌّ مِنَ الأُرْجُوْحَة، فنَـزَفَ بَعْضُ الدَّمِ مِنْ يَدِهِ المَجْرُوْحَة، وما إنْ عَلِمَ الصَّحَفِيُّ بِالـخَبَر، حَتَّى شَمَّرَ عَنْ سَاعِدِهِ وحَضَر، وصَوَّرَ الصَّبِيَّ مِئةَ صُوْرَة، وكَتَبَ أَنَّ يَدَهُ مَكْسُوْرَة، وأَنَّهُ أُصِيْبَ بِجُرُوْحٍ ثَخِيْنَة، سَبَـبُها إهْمَالُ بَلَدِيَّةِ المَدِيْنَة، وحِيْنَمَـا قَرَأَ المَسْؤُوْلُوْنَ تَـحْقِيْقَه، دَمَـجُوا البَلَدِيَّةَ وأَغْلَقُوا الـحَدِيْقَة، فحُرِمَتِ الأُسَرُ مِنَ التَّرْفِيْه، لِدَجَلِ هَذا الصَّحَفِيِّ السَّفِيْه.



فرَأَى الـجَارُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِجَارِه، ويَكْشِفَ لَهُ بَعْضَ عَوَارِه، فصَحِبَهُ في نُـزْهَةٍ قَرِيْبَة، ثُمَّ عَابَ عَلَيْهِ أَكَاذِيْبَه، ونَصَحَهُ بِتَحَرِّي الـحَقَائق، والتَّحَلِّي بِالطَّبْعِ الصَّادِق، وأَلاّ يَنْظُرَ إلى جِهَةٍ وَاحِدَة، وأَلاّ يُوَجِّهَ لِلشُّهْرَةِ مَقَاصِدَه، وبَيْنَمَـا الـجَارُ يَنْصَحُ صَفِيَّه، إذْ مَرَّتْ سَحَابَةٌ صَيْفِيَّة، وَرَشَحَ مِنْها بَعْضُ الطَّـلّ، فما لَبِثَ الصَّحَفِيُّ أَنِ انْسَلّ، ووَدَّعَ جَارَه في اسْتِعْجَال، والْتَفَتَ إلَيْهِ لاهِثاً وقَال:



أَعِدُكَ أَنْ أُرَاعِيَ أَقْوَالَك، فأَرِحْ مِنَ اليَوْمِ بَالَك، ولَكِنَّ المَدِيْنَةَ الآنَ تَغْرَق، وشَوَارِعُها بِالطُّوْفَان تَشْرَق، ولا بُدَّ أَنْ أُصَوِّرَ هَذِهِ المَهَازِل، وأَكْتُبَ عَنْها تَقْرِيْرِي العَاجِل، فدَعْنِي أَرْصُدِ الفَيَضَانَات، قَبْلَ أَنْ تَبْتَلِعَها البَيَّارَات، وأَرْجُو أَنْ تُـهَاتِفَنِي دُوْنَ تَعْوِيْق، مَتَى صَادَفْتَ حَادِثاً في الطَّرِيْق.



فتَـيَـقَّنَ الرَّجُلُ أَنَّ صَاحِبَهُ مُبْتَلَى، وأَنَّ لَيْلَ غَيِّهِ بَعْدُ ما انْجَلَى، فرَجَّعَ عَلَيْهِ آهَةً مُـحْرِقَة، ثُمَّ أَنْشَدَ والشَّمْسُ مُشْرِقَة:



يَا لَـجَارٍ صَحَفِيٍّ يَقْتَفِي *** أَثَرَ الشَّرِّ كَصِلٍّ لادِغِ



يَرْصُدُ القُبْحَ بِطَرْفٍ ثَاقِبٍ *** وَيَـرَى الـحُسْنَ بِطَرْفٍ زَائغِ



يَـحْبِكُ الزَّيْفَ فُنُوْناً فَهْوَ في *** فَرْقَعَاتِ القَوْلِ أَدْهَى نَابِـغِ



كَمْ دَعَاوَى بَاطِلاتٍ هَذَّهَا *** وَكَسَاهَا بِالدَّلِيْلِ الدَّامِغِ



وَيَسِيْرٍ هَيِّنٍ قَدْ صَاغَهُ *** نَـبَأً.. تَـبّاً لَهُ مِنْ صَائغِ



وَيْلَهُ! أَصْفَيْتُهُ نُصْحِي فَلَمْ *** أَلْقَ مِنْهُ غَيْرَ عِيٍّ بَالِغِ



مَنْ رَأَى رَشْحَ الـحَيَا مَا بَالُهُ *** زَاغَ عَنْ قُرْصِ السَّمَاءِ البَازِغِ؟!



فَدَعُوْهُ في هَوَى تَضْلِيْلِهِ *** إنَّ مِنْطِيْقَ الـهَوَى كَاللاَّثِغِ



وَاعْلَمُوا أَنْ لا دَعَاوَى هَشَّةً *** كَدَعَاوَى صَحَفِيٍّ فَارِغِ










4 
مجدى سالم




21 – «زَيْفٌ كَزَيْفِ المُسَابَقَات»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ في الدَّجَلِ والـهُرَاء، والعَبَثِ بِمَشَاعِرِ الفُقَرَاءِ والبُسَطَاء، والمُسَابَقَاتُ أَفْخَاخُ احْتِيَال، تُنْصَبُ لِنَهْبِ الأَمْوَال، ولِلْقَائمِيْنَ عَلَيْها وَسَائل، لِـجَذْبِ الغَافِلِ والـجَاهِل، أَشْهَرُها القَائمُ عَلَى التَّصْوِيْت، وإثَارَةِ نَعْرَةِ التَّعَصُّبِ المَقِيْت، ووَسِائلُهُمْ تَـهْدِفُ إلى المُـتَاجَرَة، ومُعْظَمُها يَقُوْمُ عَلَى المُقَامَرَة، وتَـخْلُو مِنَ التَّـنَافُسِ الشَّرِيْف، ولِلْمُتَفَيْهِقِيْنَ مِنْها مَوْقِفٌ ظَرِيْف، حَيْثُ رَأَوا أَوَّلَ الأَمْرِ حُرْمَتَها، ثُمَّ أَبَاحُوْها لَـمَّا ذَاقُوا عُسَيْلَـتَها، وصَارَ لِطَائفَةٍ مِنْهُمُ الـخُطُوْطُ الـخَاصَّة، وأَرْصِدَتُـهُمْ بِقِيْمَةِ الاتِّصَالاتِ غَاصَّة.



وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ شَاعِراً سَمِعَ في الإعْلان، عَنْ مُسَابَقَةِ أَشْعَرِ الإنْسِ والـجَان، وأَنَّ جَائزَتَـها آلافُ الدَّنَانِيْر، والـحُكْمَ فِيْها لِنُخْبَةِ الـجَمَـاهِيْر، فغَرَّتْهُ لَفْظَةُ (نُخْبَة)، ودَعَتْهُ إلَيْها الرَّغْبَة، وكَانَ رَغْمَ الإفْلاس، مِنْ أَشْعَرِ النَّاس، فاخْتَارَ مِنْ شِعْرِهِ وانْتَخَب، وبَعَثَ بِهِ إلَيْهِمْ وارْتَقَب، ورَاحَ يَسْرَحُ بِالأَحْلامِ والآمَال، وكَيْفَ سَيَحْتَارُ في إنْفَاقِ المَال، وتَـخَيَّلَ أَنَّهُ سَدَّدَ أَقْسَاطَهُ المُرَكَّبَة، وأَنَّهُ اشْتَـرَى بَيْتاً ومَرْكَبَة، ولَـمَّا صَوَّتَ المُصَوِّتُوْن، خَرَجَ بِصَفْقَةِ المَغْبُوْن، إذْ لَـمْ يُصَوِّتْ لَهُ غَيْرُ أَخٍ وجَار، وثَالِثٍ أَخْطَأَ في (زِرِّ) الاخْتِيَار، ومِـمَّا زَادَ غَبْنَ الشَّاعِرِ وسَاءه، أَنَّ قَصِيْدَةَ الفَائزِ بَالِغَةُ الرَّدَاءة، بَيْدَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ قَبِيْلَةٍ كَبِيْرَة، ولَـها انْتِشَارٌ في أَنْحَاءِ الـجَزِيْرَة، فصَوَّتُوا لَهُ نَخْوَةً وحَـمِيَّة، وهُمْ لا يَعْرِفُوْنَ ما القَضِيَّة.



وحِيْنَمَـا تَـبَدَّدَتْ أَحْلامُه، وسَيْطَرَتْ عَلَيْهِ آلامُه، نَفَّسَ عَنْ كَرْبِهِ الثَّقِيْل، بِأَثْقَلِ أَوْزَانِ الـخَلِيْل، فبَاغَتَ مُنَظِّمِي ذَلِكَ الـهُرَاء، وهَاتَفَهُمْ مُبَاشَرَةً عَلَى الـهَوَاء، وأَنْشَدَهُمْ بِسُرْعَةِ خَاطِف، قَبْلَ أَنْ يُغْلِقُوا الـهَاتِف:



لأَنِّي بِغَيْرِ قَوْمٍ *** وَلا عُصْبَةٍ ذَوَاتِ



أُعَانِي فَوَاتَ فَوْزِي *** وَأَبْكي عَلَى فَوَاتِي؟!



فَمَا ثَمَّ قَطُّ زَيْفٌ *** كَزَيْفِ المُسَابَقَاتِ



أَلاَ إنَّكُمْ لُصُوْصٌ *** تَـبُـثُّوْنَ مِنْ قَنَاةِ



تُقِيْمُوْنَ سَبْقَ شِعْرٍ *** وَتُغْرُوْنَ بِالـهِبَاتِ



وَأَنْتُمْ بِلا شُعُوْرٍ *** فَيَا لَلْمُفَارَقَاتِ!



لَقَدْ كَانَ سَبْقَ رَدْحٍ *** خَصَصْتُمْ بِهِ فِئاتِ



بِتَصْوِيْـتِهِمْ أَكَلْتُمْ *** وُقُمْتُمْ عَنِ الفُتَاتِ!



فَخَادَعْتُمُ القَوَافِي *** وَجُمْهُوْرَها المُوَاتي



وَمِنْ قَبْلِ ذَاكَ سَبْقٌ *** لأَعْجَازِ رَاقِصَاتِ!



ذِئابٌ تَرُوْمُ طُعْماً *** فَكَمْ أَرْنَبٍ وَشَاةِ!









22 – «سَخَافَةٌ لَـمْ يَقُلْهَا التَّرْبَوِيّ»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ في الكَلامِ البَارِد، قَليلِ المَنافِعِ مَنْـزُوْعِ الفَوَائد، والتَّرْبَوِيُّ مَنْ أَشْغَلَ نَفْسَهُ بِالقُشُوْر، وغَفَلَ عَنْ جَلائلِ الأُمُور، وانْصَرَفَ عَنْ شُؤُوْنِ التَّعْلِيْم، وبَالَغَ في التَّنْظِيْرِ والتَّنْظِيْم، فخَرَجَ عَلَى يَدِهِ جِيْلٌ ضَعِيْف، لا يَقْوَى عَلَى كَسْرِ رَغِيْف، جَاوَزَ وَاحِدُهُمْ عِشْرِيْنَ عَاما، ولَـمْ يَـزَلْ يُنَادِي أُمَّهُ: مَامَا.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ رَجُلاً تَزَوَّجَ دَارِسَةَ نَفْس، وأَنْجَبَ مِنْها بَنَاتِهِ الـخَمْس، فكانَ إذا عَنَّـفَهُنَّ علَى الـخَطَأ، فَضَحَتْهُ زَوْجَتُهُ في المَلأ، وإذا مَعَهُنَّ انْبَسَط، قالَتْ لَهُ: غَلَط، وكُلَّـمَا قالَ لَـهُنَّ: لا، قالَتْ لَهُ: قُلْ بَلَى، وإنْ طَاوَعَهَا يَوْماً وقَال، قَالَتْ: أَفْرَطْتَ في الدَّلال، فكَانَ مِنْها في مُشَاغَبَة، وطُوْلِ جِدَالٍ ومُعَاتَـبَة، وحَدَثَ في ذاتِ يَوْم، وهُمَا يَسْتَعِدَّانِ للنَّوْم، أَنِ اقْتَـرَبَتْ مِنْهُ تَقُوْلُ لَه، وكَانَ السَّأَمُ قَدْ أَثْقَلَه:



يَا سَيِّدِي اللَّبِيْب، إنَّ سِيَاسَةَ التَّأْدِيْب، أنْ نَـنْظُرَ إلى المُسْتَقْبَل، ونَمْضِيَ نَحْوَ الأَفْضَل، ولا يَنْبَغِي أنْ تُعَنِّفَ البَنَات، أوْ أنْ تَسْكُتَ عَلَى ما فَات، ولا بُدَّ أنْ تَـتَّبِـعَ إسْتِرَاتِيْجِيَّةً وَاضِحَة، وتَسْتَفِيْدَ مِنْ تَـجَارِبِ الشُّعُوْبِ النَّاجِحَة، ولا شَكَّ أنَّ الـخَلَـلَ فِيْك، ولا بُدَّ مِنْ تَكْمِيْمِ فِيْك، فأنتَ لَـمْ تَطَّلِعْ عَلَى المَـنَاهِجِ الـحَدِيْثَة، وتَنْقُصُكَ لِبُلُوْغِ الوَعْيِ خُطىً حَثِيْثَة، وما أَحْوَجَكَ إلى دَوْرَةٍ تَأْهِيْلِيَّة، في عِلْمِ الذَّاتِ والبَرْمَـجَةِ اللُّغَوِيَّة، ففي الـحَقِيْقَةِ والوَاقِع، أنْتَ في الـجَهْلِ وَاقِع، وتَفْتَقِدُ مُعْظَمَ المَهَارَات، كَمَا أَثْبَتَتِ الدِّرَاسَات، فَائْذَنْ لي أَنْ أَخْتِمَ الكلام، بِأَحْدَثِ الإحْصَائيَّاتِ والأَرْقام.



فقَاطَعَها الزَّوْجُ المَكْدُوْد، وصَاحَ: لِلصَّبْرِ حُدُوْد، فجَذَبَـها إليهِ مِنْ شَعْرِها، وأَعْلَمَها حَقِيْقَةَ قَدْرِها، وصَفَعَها عَلَى خَدِّها، وأَوْقَفَها عِنْدَ حَدِّها، وتَـرَكَها وخَرَج، وسَأَلَ اللهَ الفَرَج، ثُمَّ أَخْرَجَ قَلَمَهُ وقِرْطَاسَه، وكَتَبَ بَعْدَ أنِ اسْتَجْمَعَ أنْفَاسَه:



لَقَدْ تَزَوَّجْتُ مِنْ خَرْقَاءَ بَارِدَةٍ *** تَضَاعَفَ الرُّزْءُ فِيْهَا وَانْتَـهَى أَسَفي



يَكَادُ يَـجْمُدُ مِنْهَا في العُرُوْقِ دَمِي *** لَوْلا حَـمِيْمُ الأَسَى مِنْ مَدْمَعِي الوَكِفِ



خَصَصْتُهَا بِوِدَادٍ خَالِصٍ، وَأَنا *** خُصِصْتُ مِنْها بِسُوْءِ الكَيْلِ وَالـحَشَفِ



تَـهْذِي عَلَيَّ بأقْوَالٍ مُطَلْسَمَةٍ *** وَتَـمْضَغُ الـحَرْفَ مَضْغَ الشَّاةِ لِلعَلَفِ



إذا احْتَضَنْتُ بَنَاتِي أوْ رَفَعْتُ يَدِي *** بِالزَّجْرِ فِيْهِنَّ صَاحَتْ بِي: كَفَاكَ قِفِ



تَقُوْلُ إنَّ (اسْتِرَاتِيْجِيَّتِي) خَطَأٌ! *** فَاسْمَعْ حَدِيْثِي، وَمِنْ يَنْبُوْعِيَ ارْتَشِفِ



ثُمَّ انْبَـرَتْ بِحَدِيْثِ السُّخْفِ تُـخْبِرُنِي *** بِمَا وَعَتْهُ مِنَ التِّلْفَازِ وَالصُّحُفِ



سَخَافَةٌ لَـمْ يَقُلْهَا التَّرْبَوِيُّ، ولَـمْ *** يَنْطِقْ بِـهَا غَيْرُ مَـخْذُوْلٍ وَمُعْتَسِفِ



بَقِيَّةٌ مِنْ تَـجَارِيْبٍ وَفَلْسَفَةٍ *** مَا ثَمَّ فِيْهِنَّ لِلْوَاعِيْنَ مِنْ هَدَفِ



وَحِيْنَمَـا أَكْثَرَتْ لِي مِنْ تَفَلْسُفِهَا *** وَسَاقَتِ القَوْلَ في كِبْـرٍ وَفي صَلَفِ



صَفَعْتُهَا بِيَمِيْنٍ لَوْ صَفَعْتُ بِـهَا *** مَيْتاً لَقَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ كَالأَلِفِ



وَزِدْتُـهَا بِصُدُوْدِي كُرْبَةً وَجَوىً *** وَنِمْتُ في مَكْتَبِي.. رَأْسِي عَلَى كَتِفي



تَـرَكْتُـهَا وَحْدَهَا في حِضْنِ وَحْشَتِهَا *** وَصِحْتُ: (بِالإسْتِرَاتِيْجِيَّةِ) الْتَحِفي



فَمَا أَتَتْ مِنْ لَيَالِي الـهَجْرِ ثَالِثَةٌ *** إلاّ وَنَحْنُ كَعُصْفُوْرَيْنِ في كَنَفِ







23 – «في الانْتِخَابِ فِخَاخُ أَطْمَاع»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ في الأَمْرِ ظَاهِرُهُ الـخَيْر، وبَاطِنُهُ يَنْطَوِي عَلَى الشَّرِّ والضَّيْر، والانْتِخَابُ اخْتِيَارُ المُنَاسِب، لِيَقُوْمَ عَلَى بَعْضِ المَـنَاصِب، وقَدْ يُتَّخَذُ ذَرِيْعَةً لِلْوَجَاهَةِ والمَغَانِم، وتُبْذَلُ في سَبِيْلِهِ الأَمْوَالُ والوَلائم، وطَالَـمَا تَـحَزَّبَتْ في الانْتِخَابِ فِئات، فجَادُوا عَلَى مُرَشَّحِهِمْ بِالأَصْوَات، لِكَوْنِهِ أَجْزَلَ لَـهُمُ الوُعُوْد، أَوِ انْتَخَى بِـهِمُ الآبَاءَ والـجُدُوْد.



وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ زَعِيْمَ بَادِيَة، اسْتَقَرَّ بِرَعِيَّتِهِ في بُقْعَةٍ نَائيَة، ولَـمْ يَزَالُوا يُثْنُوْنَ عَلَى سِيْرَتِه، وعَلَى عَدْلِهِ في سِيَاسَةِ عَشِيْرَتِه، وكَانَ عَلَى الـجِوَارِ مِنْهُمْ أَعَاجِم، لَـهُمْ عَادَةٌ في اخْتِيَارِ الـحَاكِم، حَيْثُ كَانُوا يَـجْتَمِعُوْنَ ويَـخْتَارُوْن، ثُمَّ يُقَاسِمُوْنَهُ إدَارَةَ الشُّؤُوْن، وإنْ خَالَفَهُمْ في أَمْرٍ عَزَلُوْه، ورُبَّمَـا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وقَـتَلُوْه، وعَلِمَ أَحَدُ الرُّعَاةِ بِـتِلْكَ العَادَة، وكَانَ مَوْلَىً دَخِيْلاً يَكْرَهُ أَسْيَادَه، فأَفْشَى ما رَآهُ بَيْنَ الرُّعْيَان، واقْتَـرَحَ عَلَيْهِمْ تَقْلِيْدَ الـجِيْرَان، فكَاشَفُوا زَعِيْمَهُمْ بِالاقْتِرَاح، وأَثْقَلُوا عَلَيْهِ بِالإلْـحَاح، وعَـرَضُوا عَلَيْهِ إقْرَارَ الانْتِخَاب، عَلَى أَنْ يَظَلَّ مَـحْمِيَّ الـجَنَاب، ويَـخْتَارَ هُوَ الوُزَرَاءَ والأَتْبَاع، ويَتْـرُكَ لَسِوَاهُ شُؤُوْنَ الرَّعَاع، فأَقَـرَّهُمُ الزَّعِيْمُ عَنْ حُسْنِ نِيَّة، وتَـرَكَهُمْ يُدَبِّرُوْنَ أَمْرَ الرَّعِيَّة، فأَشْغَلُوا العَشِيْرَةَ بِالتَّصْوِيْتِ والاقْتِرَاع، وضَيَّعُوا أُمُوْرَ الرَّعْيِ والازْدِرَاع، ونُصِبَتِ الـخِيَامُ لِلتَّرْشِيْح، وسَخَا بِأَمْوَالِهِ الشَّحِيْح، وزَخْرَفُوا دَعَاوَى التَّطْوِيْر، وأَجَادُوا وَسَائلَ التَّزْوِيْر، وأُقِيْمَتِ الوَلائمُ الكَبِيْرَة، وتَـحَزَّبَ أَبْنَاءُ العَشِيْرَة، ودَخَلَ في نُفُوْسِهِمُ الشَّتَات، وصَارُوا بَعْدَ الوَحْدَةِ جَمَاعَات، ففَازَ المَوَالِي بِثَلاثَةِ مَقَاعِد، وظَفِرَ الرُّعَاةُ بِمَقْعَدٍ وَاحِد، ومَرَّتْ بِـهِمُ الأَعْوَامُ ولا جَدِيْد، وأَحْوَالُـهُمْ في احْتِدَامٍ شَدِيْد.



وفي العَامِ الـخَامِسِ مِنَ الانْتِخَاب، اجْتَـرَؤُوا عَلَى مَـحْمِيِّ الـجَنَاب، ورَأَوا أَنَّ احْتِدَامَهُمُ القَدِيْم، سَبَـبُهُ كُرْهُ بَعْضِهِمْ لِلزَّعِيْم، فقَرَّرُوا أَنَّ تَنْحِيَتَهُ أَوْلَى، ونَصَّبُوا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ المَوْلَى، وحِيْنَ هَمَّ الزَّعِيْمُ بِالارْتِـحَال، الْتَفَتَ عَلَى العَشِيْرَةِ وقَال:



قَدْ سُـسْتُكُمْ بِالعَدْلِ مُنْتَهِجاً *** نَـهْجَ امْرِئٍ لِلْخَيْرِ مُنْصَاعِ



فَلْتَنْقُلُوا عَنِّي مُكَابَدَةً *** ضَاقَتْ بِـهَا يَا قَوْمِ أَضْلاعي:



في كَثْرَةِ الآرَاءِ فُرْقَتُكُمْ *** وَفي الانْتِخَابِ فِخَاخُ أَطْمَاعِ



لا شَيْءَ أَبْخَسُ مِنْ مُشَارَكَةٍ *** وَالبَخْسُ في المَوْزُوْنِ لا الصَّاعِ



هَذَا أَنَا أَدْعُو إلَى رَشَدٍ *** وَاللهُ يَعْلَمُ حَسْرَةَ الدَّاعي



اثْنَيْنِ لا تُعْطُوْهُمَا ثِقَةً: *** مَوْلاكُمُ المَخْطُوْمُ، وَالرَّاعي



يَفِيَانِكُمْ حَتَّى إذا ارْتَفَعَا *** غَدَرَا، وحَطَّاكُمْ إلَى القَاعِ



لا تُسْلِمُوا النَّذْلَيْنِ أَنْفُسَكُمْ *** إنْ كَانَ فِيْكُمْ حَاذِقٌ وَاعي



فَلَقَدْ رَأَيْتُمْ كَيْفَ خَادَعَنِي *** مَنْ لَـمْ يُـخَلْ يَوْماً بِخَدَّاعِ



زَانَا بِعَيْنَيَّ انْتِخَابَـهُمَا *** وَاسْتَـثْنَـيَا عَرْشِي وأَتْبَاعي


وَالآنَ هَا أَنَذَا طَرِيْدُ فَلاً *** أَصْلَى مَرَارَاتِي وأَوْجَاعي












24 – «لا أَجْحَدَ مِنْ أُنْثَى»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ جَحَدَ الفَضْلَ الـجَزِيْل، وتَنَاسَى كُلَّ مَا صُنِعَ بِهِ مِنْ جَمِيْل، وَخُصَّتِ الأُنْثَى بِالنُّكْرَان، لِكَوْنِـها أَسْرَعَ إلى النِّسْيَان، ولأَنَّـها مَطْبُوْعَةٌ عَلَى الشَّكْوَى، وعَلَى غَيْرِ الـخِصَامِ لا تَقْوَى.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ شَابّاً كَثِيْرَ المَال، بَلَغَ بِعُمْرِهِ وعَقْلِهِ مَبْلَغَ الرِّجَال، وكانَ أَهْلُهُ يُشِيْرُوْنَ عَليهِ بالزَّوَاج، مِنْ فَـتَاةٍ كَثِيْرَةِ المَالِ مِغْنَاج، فكَانَ يَرْفُضُ كُلَّ الرَّفْض، ولا يَقْبَلُ مِنْهُمْ أَيَّ عَرْض، إذْ كَانَ سَمِعَ مِنْ مُعَلِّمِه، جُمْلَةً مُـخْتَارَةً مِنْ حِكَمِه، ومِنْ بَيْنِ ما سَمِعَهُ ووَعَاه، مِنْ تِلْكَ الـحِكَمِ ما مَعْنَاه:



خَيْرُ الـجِيَادِ الـحَسِيْبَةُ الكَرِيْمَة، وخَيْرُ النِّسَاءِ الفَقِيْرَةُ الدَّمِيْمَة، فالـجَوَادُ الـحَسِيْبُ يَفُوْزُ في السِّبَاق، والمَرْأَةُ الفَقِيْرَةُ تَصْبِرُ عَلَى الإمْلاق، وتَشْكُرُ في كُثْرِها وقُلِّها، وتَـخْشَى العَوْدَةَ إلى أَهْلِها، كَمَا أنَّ الدَّمَامَةَ تُوْرِثُ الـخُلْقَ القَوِيْم، وتُكْسِبُ الزَّوْجَ الأَجْرَ العَظِيْم، وتُبْعِدُ عَنِ الزَّوْجَةِ الأَنْظَار، وتُرِيْحُ الزَّوْجَ مِنَ العَار، وذَلِكَ كُلُّهُ أَحْرَى لِلتَّوْفِيْق، وبِالدَّوَامِ والسَّعَادَةِ خَلِيْق.



فعَزَمَ الشَّابُّ عَلَى الزَّوَاجِ مِنْ فَـتَاة، لا تَـحْمِلُ إلاّ تِلْكَ الصِّفَات، فتَـرَكَ مَدِيْنَـتَهُ المَعْمُوْرَة، وبَحَثَ في القُرَى المَهْجُوْرَة، إلى أنْ وَجَدَ دَاراً مُـخِيْفَة، هَوَتْ مِنْ أَعْلاها السَّقِيْفَة، وأَمَامَ البَابِ شَيْخٌ مُسِنّ، لَـمْ يَبْقَ في فَمِهِ سِنّ، ورَأَى خَلْفَهُ فَـتَاةً ظَاهِرَةَ الـحَوَل، يُطِلُّ مِنْ هُوَّةِ أَنْفِها جُعَل، وأَسْنَانُـها بَارِزَةٌ لِلأَمَام، ولِلسُّوْسِ فِيها أَهْنَأُ مَقَام، وكَانَتْ تَنْفِضُ القَمْلَ عَلَى العَتَـبَة، وتَلْهُو بِعَظْمَةٍ وخَشَبَة، فَسُرَّ بِمَرْآها الغُلام، وقالَ: هِيَ غَايَةُ المَرَام، فنَقَدَ أَبَاها المَال، وتَزَوَّجَها في الـحَال، فأَصْلَحَ مِنْها ما يُمْكِنُ إصْلاحُه، وطَارَ بِـها تَـحْدُوْهُ أَفْرَاحُه، وأَسْكَنَها قَصْرَهُ المَهِيْب، وكَاشَفَها بِغَرَامِهِ المُذِيْب، ثُمَّ أَجْرَى لَـها مِئةَ عَمَلِيَّةِ تَـجْمِيْل، مَعَ أَنَّ هَيْئتَها لا تَقْبَلُ التَّعْدِيْل، واشْتَـرَى لَـها الذَّهَبَ والأَلْـمَاس، وفَاخِرَ الزِّيْنَةِ واللِّبَاس، وخَصَّها بِسَائقَيْنِ وثَلاثِ خَادِمَات، وجَعَلَهُمْ رَهْنَ إشَارَتِـها كُلَّ الأَوْقَات، ومَنَحَها مَا لَيْسَ عَلَيْهِ مَزِيْد، وصَارَ لَـها في المَصْرِفِ رَصِيْد، كَمَا طَافَ بِـها البُلْدَانَ والمَعَالِـم، وأَطْعَمَها في أَفْخَرِ المَطَاعِم، وعَلَّمَها الأَكْلَ بِالمِلْعَقَة، وكَانَتْ تَـحْسَبُها مِطْرَقَة، وظَلاّ أَعْوَاماً عَلَى هَذِهِ الـحَال، في أَتَمِّ نُعْمَى وأَسْعَدِ بَال.



وفي لَيْلَةٍ حَالِكَةٍ بَطِيْئةِ النُّجُوْم، دَخَلَ الزَّوْجُ بَيْتَهُ وهوَ مَهْمُوْم، فنَسِـيَ أَمْرَ الشَّرِيْكَة، ونَامَ عَلَى الأَرِيْكَة، وكَانَتْ زَوْجَتُهُ تَنْتَظِرُهُ في الغُرْفَة، وتَرْتَقِبُ دُخُوْلَهُ عَلَيْها في لَـهْفَة، فلَـمَّا اسْتَبْطَأَتْ مَـجِيْئهُ إلَيْها، وخَيَّمَتْ سَطْوَةُ المَلَلِ عَلَيْها، عَلاها الوَجَلُ والارْتِبَاك، إلى أَنْ أُخْبِرَتْ بِنَوْمِهِ هُنَاك، فهَبَطَتْ إليهِ مُسْرِعَةً مُـجِدَّة، وسَحَبَتْ مِنْ تَـحْتِ رَأْسِهِ المَخَدَّة، وجَذَبَتْهُ مِنْ كَتِفَيْه، ثُمَّ صَرَخَتْ عَلَيْه:



أَلاَ سُحْقاً لِبُرُوْدِكَ يا أَلأَمَ اللُّؤَمَاء، تَـتْـرُكُنِي وَحْدِي وتَنَامُ في هَنَاء، وَاللهِ إنَّنِي أَعْلَمُ أَنَّكَ خَسِيْس، لَـمْ أَلْقَ مَعَكَ إلاّ العَيْشَ التَّعِيْس، صَبَرْتُ عَلَيْكَ السِّنِيْنَ الطِّوَال، ولَـمْ أَجِدْ مِنْكَ غَيْرَ الإهْمَال، وبَذَلْتُ لَكَ النَّفِيْسَ الغَالي، وأَنْتَ بي لا تُبَالي، وحَمَلْتُ لأَجْلِكَ الأَحْمَال، وأَنْتَ لا مَالَ ولا جَمَال، وإلاّ قُلْ لي مَنْ تَصْبِرُ عَلَى نَكَدِك، وتَرْضَى أَنْ تَضَعَ يَدَها في يَدِك؟، إلاّ مَنْحُوْسَةٌ مِثْلي، بَاعَنِي لَكَ أَهْلي، وقَدْ كانَ الـخُطَّابُ مِنْ كُلِّ الـجِهَات، يَرْقُبُوْنَ مِنِّي أَدْنَى الْتِفَات، فلَيْتَ أَنَّنِي عَانِس، ولَـمْ أَتَزَوَّجْكَ يا بَائس، فقُمْ أَيُّـها المَجْنُوْن، وأَحْضِرِ الـمَأْذُوْن، فلا صَبْرَ لي عَلَى العَيْشِ الـجَدِيْب، ولا النَّظَرِ إلى وَجْهِكَ الكَئيْب.



وما زَالَتْ تَصِيْحُ وتَشْتُم، وتَرْكُلُ المِسْكِيْنَ وتَلْكُم، وهوَ في مَكَانِهِ مُنْكَمِش، ومِنَ الرَّهْبَةِ يَرْتَعِش، ثُمَّ نَـهَضَ مِنْ أَرِيْكَتِهِ واعْتَدَل، ونَفَثَ عَنْ شِمَالِهِ وتَفَل، فعَادَتْ إليهِ بَعْضُ السَّكِيْنَة، وأَحْكَمَ سَيْطَرَتَهُ عَلَى السَّفِيْنَة، ولَوْ سَدَّدَ لَـها ضَرْبَةً في الرَّاس، لَسَقَطَتْ مِنْها خَمْسَةُ أَضْرَاس، ولَكِنَّهُ آثَـرَ الصَّمْتَ والانْكِفَاء، وعَلِمَ أنَّـها طَبِيْعَةُ النِّسَاء، ولا حِيْلَةَ فِيها ولا جَدْوَى، فدَعا بِالصَّبْرِ عَلَى البَلْوَى، ثُمَّ أَخْرَجَ قِرْطَاسَهُ وقَلَمَه، وكَتَبَ وهوَ يُغَالِبَ أَلَـمَه:



تَـمَادَتْ بي تَـبَارِيْـحي *** فَيَا لِـلَّـهِ ما أَلْقَى



وَمَادَتْ بي ذُرَى صَبْري *** وَكَانَ الصَّبْرُ لي خُلْقا



تَزَوَّجْتُ التي أَرْجُو *** فَمَا أَقْبَحَها خَلْقا



تَـرَى فِيْها ثآليلاً *** وأَنْيَاباً لَـهَا زُرْقا



فَإنْ شَبَّهْتَها يَوْماً *** بِنَسْـنَاسٍ فَلا فَرْقا



فَأَوْسَعْتُ لَـهَا قَلْبي *** وَتُيِّمْتُ بِـهَا عِشْقا



وَقَدْ أَكْرَمْتُ مَثْوَاها *** وَلاقَتْ مِنِّيَ الرِّفْقا



وَأَحْسَنْتُ لَها دَهْراً *** وَطُفْنَا الغَرْبَ والشَّرْقا



وَقُلْتُ: الآنَ أَجْنِي مِنْ *** نُخَيْلاتِ الرِّضَا عِذْقا



فَمَا صَحَّتْ حِسَابَاتي *** وَلا حَدْسِـي بِـهَا اسْتَوْقى



فَمَا أَخْيَبَ آمالي *** وَمَا أَكْثَرَنِي حُمْقا



رَأَتْنِي أَشْتَـكِي هَـمِّي *** وَأَحْزَانِي مَعِي غَرْقى



فَلَمْ تُسْعِفْ بِإنْجَادٍ *** ولَـمْ تَـرْتِقْ مَعِي فَتْقا



وَظَنَّتْ أَنَّنِي سَالٍ *** وَخَالَتْ ظَنَّها حَقّا



فَجَرَّتْنِي عَلَى وَجْهِي *** وَقَالَتْ لي: أَلاَ سُحْقا



تَنَاسَتْ كُلَّ إحْسَاني *** وَأَرْخَتْ لِلْخَنَا شِدْقا



وَخَصَّتْنِي بأَوْصافٍ *** إلى الـخِـنْـزِيْـرِ لا تَـرْقى



وَظَلَّتْ تَـكْفُرُ النُّعْمَى *** وَتَـرْجُو مِنِّيَ العِتْقا



لأَنَّ البُؤْسَ أَضْنَاها! *** وَشُحِّي زَادَها خَنْقا!



فَلا أَجْحَدَ مِنْ أُنْثَى *** وَلا أَغْبَى وَلا أَشْقى











25 – «لا مُهَانَ كَدَائن»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ أَهَانَهُ نُبْلُه، وأَصْمَاهُ مِنْ قَوْسِ مُـجْتَدِيْهِ نَبْلُه، والدَّائنُ هُنَا مُقْرِضُ الصَّحْبِ مالَه، والمُرْخِي عَلَى سَوْءاتِـهِمْ سِرْبَالَه، ورَجَا بِقَرْضِهِ الأَجْرَ والثَّوَاب، فكَانَ جَزَاءَهُ المَطْلُ والسِّبَاب.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ رَجُلاً ابْتُلـِيَ بِالشَّهَامَة، وأَرْخَى في نَجْدَةِ الأَصْحَابِ زِمَامَه، فكَانَ إذا اسْتَصْرَخَهُ لاهِثْ، أَقْرَضَهُ ما يَقِيْهِ الـحَوَادِث، ثُمَّ اتَّفَقَ مَعَهُ عَلَى مَوْعِدِ السَّدَاد، ودَعا اللهَ لهُ بِالتَّوْفِيْقِ والسَّدَاد، فلَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِهِ مُـحْتَاج، إلاّ وأَحَالَ ضِيْقَهُ إلى انْفِرَاج، وكَانُوا يَتَـوَدَّدُوْنَ إلَيْهِ سَاعَةَ القَرْض، ويَكَادُوْنَ يُقَبِّلُوْنَ أَمَامَهُ الأَرْض، وهوَ يَـجْذِبُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ يَمِيْنَه، ولا يَرْضَى لَـهُمْ حَالَةً مَهِيْنَة، وهَكَذا كَانَ في رِفْقِهِ ومَوَدَّتِه، لا يَكَادُ يَـحْرِمُ أَحَداً مِنْ نَجْدَتِه.



فلَـمَّا انْقَضَتْ مُدَّةُ ما بَيْنَهُمْ وبَيْنَه، طَافَ عَلَى أَصْحَابِهِ يَسْتَوْفِـي دَيْنَه، فطَرَقَ بَابَ الصَّاحِبِ الأَوَّل، فصَاحَ في وَجْهِهِ وأَعْوَل، وقالَ: لا سَبِيْلَ إلى التَّقَاضي، واذْهَبْ متَى شِئتَ إلى القَاضي، ثُمَّ عَاجَلَ وَجْهَهُ بِـبَصْقَة، وأَسْمَعَهُ مِنْ بَابِهِ صَفْقَة، ومَرَّ عَلَى صَاحِبِه الثَّاني، فأَقْسَمَ لهُ بِالمَثَاني، أَنَّهُ لا يَمْلِكُ قُوْتَ يَوْمِه، وأنَّ إفْطَارَهُ مِثْلُ صَوْمِه، وطَلَبَ مِنْهُ الإمْهَال، إلى صَلاحِ الـحَال، وأَمَّ بَيْتَ ثَالِثِ أَصْحَابِه، فطَالَ وُقُوْفُهُ عَلَى بَابِه، ثُمَّ خَرَجَ إليهِ أَحَدُ بَنِـيْه، وقَالَ والتَّلَعْثُمُ مِلْءُ فِيْه:، أَبِـي في سَفَرٍ قَدْ يَطُوْل، فلا يَكُنْ مِنْكَ قُفُوْل، وقَصَدَ صَاحِبَهُ الرَّابِـع، بَعْدَ أنْ رَصَدَهُ في الـجَامِع، فالْتَفَتَ إليهِ لَفْتَةَ المُكْتَسِح، وقالَ لهُ: يا لَكَ مِنْ وَقِح، تَـرَاني مُنْشَغِلاً بِالصَّلاةِ والابْتِهَال، وأَنْتَ تَـرْصُدُني تُـرِيْدُ المَال، فاغْرُبْ عَنْ وَجْهِي شَقِيْتَ وخُزِيْت، ولا سَلِمْتَ مِنَ الأَذَى ولا وُقِيْت، ولَنْ أَفِيَكَ شَيْئاً مِنْ مَالِك، رَدْعاً لَكَ ولأَمْثَالِك، وخَرَجَ يَلْتَمِسُ صَاحِبَهُ الـخَامِس، فوَجَدَهُ في بَعْضِ المَجَالِس، فلَـمَّا رَآهُ صَاحِبُه، انْعَقَدَ مِنْهُ حَاجِبُه، وقالَ: سَبَقَ مِنْكَ الإصْلاح، فلا تُفْسِدْهُ بِالمَنِّ والإلْـحَاح، ثُمَّ إنَّ اللهَ فَـتَحَ عَلَيْك، وسَاقَ جَزِيْلَ فَضْلِهِ إلَيْك، وما أَرَاكَ بِمُحْتَاج، فدَعْ عَنْكَ اللَّجَاج، واعْلَمْ أنَّ الـخِصَام، مِنْ طِبَاعِ اللِّئام، وإنِّي إخَالُكَ كَثِيْرَ اللُّؤْم، وفي وَجْهِكَ عَلامَاتُ الشُّؤْم، وهَا أَنَذَا بَدَأْتُ مِنْكَ أَضِيْق، فلا تَضْطَـرَّنِي إلى ما لا يَلِيْق، فاحْـمَدِ اللهَ عَلَى العَافِيَة، ولا تُـرِني وَجْهَكَ مَرَّةً ثَانِيَة.



فآثَـرَ الدَّائنُ أنْ يَسْتَرِيْح، وأَلاّ يَسْتَمْسِكَ بِالرِّيْح، وأَقْسَمَ باللهِ ذي الـجَلال، أَلاّ يُسْعِفَ مُعْوِزاً بِمَال، وأَلاّ يُنْجِدَ أَحَداً مِنْ كَمَدِه، ولَوْ كَانَ فَلْذَةَ كَبِدِه، ثُمَّ صَعَدَ مَنَارَةَ المَسْجِد، وأَنْشَأَ مِنْ غَيْظِهِ يُنْشِد:



يَا مَعْشَـرَ النُّبَلاءِ لا يَأْخُذْكُمُ *** في مُعْوِزٍ عَطْفٌ وَلا تَـتَأَثَّروا



يَسْتَفُّ بِاسْمِ القَرْضِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ *** وَلَوِ اسْتَـبَنْـتُمْ فَهْوَ لِصٌّ أَكْبَرُ



يَأْتِي إلَيْكُمْ شَاكِياً أَحْوَالَهُ *** وَدُمُوْعُهُ مِنْ عَيْنِهِ تَـتَحَدَّرُ



وَيَظَلُّ يَسْتَجْدِي سَمَاحَ نُفُوْسِكُمْ *** وَلِسَانُهُ الـخَدَّاعُ شَهْدٌ يَقْطُرُ



لا تُـحْسِنُوا فِيْهِ الظُّنُوْنَ فَإنَّهُ *** أَدْهَى الوَرَى، وَمِنَ الثَّعَالِبِ أَمْكَرُ



لَوْ أَنَّنِي أَخْبَرْتُكُمْ بِأَذِيَّتِي *** مِنْ مِثْلِهِ لَشَجَاكُمُ مَا أُخْبِرُ



أَقْـرَضْتُ أَصْحَابي فَلَـمَّا جِئْتُهُمْ *** مُسْتَوْفِياً بَصَقُوا عَلَيَّ وَأَنْكَروا



وَأَقَلُّ مَا لاقَيْتُ مِنْ نُكْرَانِـهِمْ *** وَغْدٌ يُمَـاطِلُنِي، وَآخَرُ يَزْجُرُ



فِيْما مَضَى كُنْتُ العَزِيْزَ لَدَيْـهِمُ *** وَاليَوْمَ هَا أَنَذَا العَدُوُّ الأَخْطَرُ



قَدْ أَشْـرَبُوْني بِالمَهَانَةِ عَلْقَماً *** وَشَرَابُـهُمْ مِنْ قَبْلُ عِنْدِي السُّكَّرُ



فإذا أَرَدْتُمْ حِفْظَ مَاءِ وُجُوْهِكُمْ *** لا تُـقْرِضُوا أَحَداً، وَمِنِّي اسْتَعْبِروا



فَلَقَدْ رَأَيْتُمْ.. لا مُهَانَ كَدَائنٍ *** هُوَ في اللَّظَى، وَالمُسْتَدِيْنُ يُسَعِّرُ



وَإذا أَبَى إلاّ الشَّهَامَةَ نُبْلُكُمْ *** فَلْتَسْتَعِيْضُوا بِالتَّصَدُّقِ تُؤْجَروا











5 
مجدى سالم




26 – «لَوْ أَنْصَفْتَ نَفْسَكَ لَـمْ تُشَامِخْ»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ لِلسَّادِرِ في ضَلالِه، المُعْرِضِ عَنِ التَّفَكُّرِ في حَالِه، ثُمَّ نَشَأَتْ لَهُ نِعْمَةٌ حَدِيْثَة، فلَقِسَتْ نَفْسُهُ الـخَبِيْثَة، ورَأَى الكِبْرَ عَلَى البَرِيَّة، ولَـمْ تَكُنْ لَهُ مِنْ قَبْلُ أَهَمِيَّة، والتَّشَامُخُ تَصَنُّعُ الشُّمُوْخ، والتَّـبَاهي بِرَأْسٍ مَنْفُوْخ.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ رَجُلاً كَانَ لهُ جارٌ قَدِيْم، وبَيْنَهُمَا مِنَ الوِدَادِ قَدْرٌ عَظِيْم، فكَانَا إذا اجْتَمَعَا يَتَصَافَعَان، وبِكُلِّ فُنُوْنِ المُـزَاحِ يَأْتِيَان، ولَـمْ يَكُنْ في قَلْبَـيْهِمَا إلاّ الإخَاء، وكَانَا مَضْرِبَ المَثَلِ في الوَفَاء، فشَاءَ ذُو النِّعَمِ العَمِيْمَة، أنْ يُوَاصِلَ الـجَارُ تَعْلِيْمَه، ومَعَ أنَّهُ كانَ مَـحْدُوْدَ الفَهْمِ والاسْتِيْعَاب، وبَيْنَهُ وبَيْنَ النُّـبُوْغِ أَبْوَابٌ وحُجَّاب، إلاّ أنَّهُ تَابَعَ في العِلْمِ مَسْرَاه، حَتَّى حَصَلَ عَلَى الدُّكْتُوْرَاه، ففَرِحَ لهُ نَدِيْمُهُ وبَارَك، ودَعَا لهُ اللهَ تَـبَارَك، ولَكِنَّ الـجَارَ ذَا الدَّال، بَدَأَ يَزْهُو ويَـخْتَال، فرَفَضَ الصَّفْعَ عَلَى قَفَاه، ولَيْتَ أنَّ رَفْضَه كَفَاه، بَلْ لَـمْ يَعُدْ يُـزَاوِرُ نَدِيْمَه، ولا يَـرُدُّ عَلَيْهِ تَسْلِيْمَه.



وحِيْنَ ضَاقَ بالنَّدِيْمِ الـحَال، أَقْسَمَ بِذِي العِزَّةِ والـجَلال، أنْ يُسْمِعَهُ قَصِيْدَةً عَصْمَاء، تَسْرِي أَصْدَاؤها في الأَنْحاء، فاعْتَـرَضَهُ اعْتِرَاضَ المُنْدَفِع، وأَنْشَدَ بِصَوْتٍ مُرْتَفِع:



لَـحَاكَ اللهُ مِنْ رَجُلٍ ضَئيْلٍ *** يَـتِـيْهُ عَلَى أَحِبَّتِهِ ب‍ (دَالِ)



وَلَوْ أَنْصَفْتَ نَفْسَكَ لَـمْ تُشَامِخْ *** بِمِنْخَرِكَ القَصِيْرِ ذُرَى الـجِبَالِ



فَمَا في التِّيْهِ لِلْعُقَلاءِ فَخْرٌ *** وَلَكِنْ في المَقَالِ وفي الفَعَالِ



أَتَذْكُرُ إذْ ثِيَابُكَ بَالِيَاتٌ؟ *** وَأَنْفَكَ إذْ يَسِيْلُ عَلَى السِّبَالِ؟



وَإذْ تَـجْرِي تُطَارِدُ كُلَّ هِرٍّ *** وَتَـمْشِي في الطَّرِيْقِ بِلا نِعَالِ؟



وَإذْ تَأْوِي إلى سَطْحِي طَرِيْداً *** وَتَقْضِي في مُنَادَمَتِي اللَّيَالي؟



غَدَاةَ قَفَاكَ يَعْكِسُ رَجْعَ صَفْعِي *** وَأَنْتَ مِنَ السَّعَادَةِ لا تُـبَالي



فَسُبْحَانَ الذي أَعْطَاكَ (دَالاً) *** وَزَادَكَ رِفْعَةً بَعْدَ اسْتِفَالِ








27 – «مَا تَقَعَّرَ إلاّ حِيْنَمَـا انْقَعَرُوا»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنِ اضْطُـرَّ إلى المُجَارَاة، وسَاقَتْهُ إلى ما لا يَوَدُّ خُطَاه، والتَّقَعُّرُ تَـكَلُّفُ الفَصَاحَة، واجْتِنَابُ اللِّيْنِ والسَّمَاحَة، والانْقِعَارُ مُنْـتَـهَى التَّقَعُّر، وغَايَةُ التَّخَلُّفِ والتَّقَهْقُر، وانْقَعَـرَ الرَّجُلُ يَنْقَعِرُ انْقِعَارا، أَيْ تَـرَكَ القَوْمَ مِنْ تَقَعُّرِهِ حَيَارَى، وانْقَعَـرَتِ المَرْأَةُ فهيَ مُنْقَعِرَة، أَيْ خَارَتْ خُوَارَ البَقَرَة، والمُنْقَعِرُوْنَ جِنْسٌ مِنَ المُـتَقَعِّرِيْن، أَسَاسُهُمْ في العِيِّ مَتِيْن، يَلْهَجُوْنَ بِغَرِيْبِ الأَحَادِيْث، ولَـمْ تَـزَلْ تَأْكُلُهُمُ البَرَاغِيْث.



وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ شَاعِراً رَقِيْقَ اللَّفْظ، رَمَاهُ عَلَى المُنْقَعِرِيْنَ سُوْءُ الـحَظّ، وكَانُوا مَعَ انْقِعَارِهِمْ غِلاظَ الطَّبْع، يُعَامِلُوْنَ النَّاسَ بِالزَّجْرِ والرَّدْع، كَثِيْرِي الارْتِيَابِ في المَقَاصِد، وسِوَاهُمْ مِنَ العَالَمِيْنَ فَاسِد، يُؤْثِرُوْنَ الرَّثَاثَةَ والانْطِوَاء، وعَلَيْهِمْ مِنَ التَّجَهُّمِ سِيْـمَاء، فرَغِبَ الشَّاعِرُ أَنْ يُلاطِفَهُمْ بِالشِّعْر، ويُـرَقِّقَ طِبَاعَهُمْ بِمَا يُلِيْنُ الصَّخْر، فأَنْشَدَهُمْ فُنُوْنَ الأَعَاجِيْب، مِنْ وَعْظٍ ومَدِيْحٍ ونَسِيْب، وحِيْنَ كَانَ مُسْتَغْرِقاً في الإنْشَاد، كَانُوا يَرْمُقُوْنَهُ بِالنَّظَرِ الـحَادّ، ولَـمَّا فَرَغَ مِنْ تِلْكَ المَوَاجِد، انْـبَـرَوا عَلَيْهِ بِقَلْبِ رَجُلٍ وَاحِد، فأَرْجَفُوا في ذَمِّهِ وأَطَالُوا، وكَانَ مِنْ بَعْضِ ما قَالُوا:



لَقَدْ تَـزَبَّـبْتَ يَا حِصْرِم، وَخُضْتَ العُبَابَ الـخِضْرِم، وَاشْمَخْـرَرْتَ بِمِعْطَسٍ أَفْطَس، وَمِثْلُكَ بَعْدُ مَا اقْعَنْسَـس، وَتَـزْعُمُ أَنَّكَ الـجَحْجَاحُ القُدْمُوْس، وَمَا جَزَاؤكَ إلا النُّـقَاخُ بِالعَسَطُوْس، تَـتَـكَأْكَأُ عَلَى الشِّعْرِ الوَاهِن، وَتُـثِـيْـرُ اخْرِنْطَامَنَا بِالمَلاحِن، وَتُنَاطِسُ في الوَعْظِ الزَّاجِر، وَأَنْتَ هِلَّوْفٌ فَاجِر، وَتُسَامِقُ بِالتَّمْدَاحِ الكَاذِب، بَكَتْ عَلَيْكَ النَّوَادِب، وَتُطَرْبِلُ شَرَاسِيْفَكَ بِالمُجُوْن، وَتَسْحَنْفِرُ فِيْهِ يَا مَأْفُوْن، فَيَا لَكَ مِنْ عَصَبْصَبٍ مُنْدَمِك، لا وَدَعَ اللهُ غَارِزاً في فَمِك، هَلاَّ أَطْسَأْتَنَا بِشِعْرٍ كَشِعْرِ أَبِي عِجَانَة، أَوْ كَشِعْرِ ابْنِ خِرِنْبَاعَ مُسْحَوْحِقِ المَكَانَة.(1)



فأَدْرَكَ الشَّاعِرُ أَنَّهُ يَنْفَخُ في رَمَاد، ويُـخَاطِبُ جَمَاعَةً مِنْ قَوْمِ عَاد، ثُمَّ حَـمَلَهُ الـهُزْءُ بِـهِمْ عَلَى المُعَاوَدَة، فهَذَّ عَلَيْهِمْ مِنَ الغَدِ جَلامِدَه، وأَنْشَدَهُمْ شِعْراً يُـحَيِّـرُ الـجَان، ولا تَصِلُ إلى مَعَانِيْهِ الأَذْهَان، فكَانُوا يَسْتَـزِيْدُوْنَ إنْشَادَه، ويَسْأَلُوْنَ لَهُ اللهَ السَّعَادَة، وهوَ أَثْنَاءَ ذَلِكَ يَـخْلِطُ البُـرَّ بِالشَّعِيْر، وهُمْ يَقُوْلُوْنَ: لِـلَّـهِ دَرُّكَ مِنْ نِحْرِيْر، وكَانَ مِنْ جُمْلَةِ ما نَفَثَه، قَوْلُهُ غَفَرَ اللهُ عَبَثَه:



تَـخَامَطَتْ في نَخَا المِطْنَاخِ خَامِطَةٌ *** وَالـخَامِطُوْنَ عَلَى مِرْبَاخِهَا نَخَرُوا



مِنْ كُلِّ مِطْنِيْحِ قَفْحٍ أَوْ أَخِي كَرَحٍ *** لا يَسْتَوِي عِنْدَهُ المِحْرَاحُ وَالشَّحَرُ



تَقَرْفَطَتْ في طُقَاهُمْ كُلُّ قَارِطَةٍ *** يَكَادُ مِنْ طُرْقَطِيْهَا المَقْطُ يَنْطَشِرُ



لا شَيْءَ يَشْرَخُها إلاَّ إذا انْشَرَخَتْ *** وَبَانَ في شُرُخَاتِ الرَّشْخِ مُنْشَخِرُ



فَكُلَّـمَا زَمْقَطَتْ في الزَّامِقِيْنَ بِـهَا *** تَقَرْمَزُوا فَـتَقَازَى حَوْلَـهَا القَزَرُ



قَامُوا عَلَيْها شَرَافِيْخاً مُقَرْشِفَةً *** وَعِنْدَمَا قَرْفَشُوْهَا قَرْفَشَ القَشَرُ



هَيْهَاتَ يَـخْثُلُهَا الثَّاخِي عَلَى ثَخَنٍ *** أَوْ أَنْ يُثَاخِـمَهَا المُخْرَنْثِطُ الـخَثِرُ



كَمْ صَارَدُوْهَا عَلَى الصَّفْصَاعِ فَانْصَرَدَتْ *** حَتَّى تَصَرْدَلَ مِنْهَا الصَّخْوُ وَالفَصَرُ



فَاسْتَرْضَغَتْ بَعْدَ أَنْ ضَاغَتْ مَرَاضِغُهَا *** ضَغْبَاءَ وَضْغَاءَ مَضْغُوْباً بِـهَا الغَضَرُ



فَمَا تُغَمْغِمُ في الغَمْرَاءِ مُغْرَتُـهَا *** إلاَّ وَغَرْشَقَ غُرْقُوْسٌ وَمُنْشَغِرُ



فَيَا لَـهَا طَرْعَةً هَاطَتْ عَلَى هَقَطٍ *** وَطَوَّهَتْهَا طَهَالِي الـهَطْعِ وَالـهُطُرُ



فَدُوْنَكُمْ مِنْ تَعَاوِيْذِ الرُّقَى دُرَراً *** كَلاَّ، فَأَرْخَصُ مِـمَّا قُلْتُهُ الدُّرَرُ



مِنْ شَاعِرٍ لَـمْ يَـحِدْ عَنْ نَـهْجِ عُصْبَـتِهِ *** ولَـمْ يَفُهْ أَبَداً إلاَّ بِمَا أَمَرُوا



فَلاَ تَلُوْمُوْهُ يَوْماً في تَقَعُّرِهِ *** فَمَا تَقَعَّرَ إلاَّ حِيْنَمَـا انْقَعَرُوا





-------



(1) تَفْسِيْرُ الفِقْرَة:



لَقَدْ جَعَلْتَ مِنْ نَفْسِكَ زَبِيْباً نَاضِجاً وأَنْتَ لَـمْ تَنْضُجْ بَعْد، وسَبَحْتَ في بَحْرٍ عَمِيْق، وبَاهَيْتَ بِأَنْفٍ قَصِيْر، ومِثْلُكَ بَعْدُ ما اشْتَدَّ عُوْدُه، وتَـزْعُمُ أَنَّكَ سَيِّدٌ نَبِيْلٌ وَضَخْم، ومَا جَزَاؤكَ إلاّ الضَّرْبُ عَلَى رَأْسِكَ بِالعَصَا، تَسْتَنِدُ عَلَى الشِّعْرِ الضَّعِيْف، وتُثِيْرُ غَضَبَنا بِأَخْطَائكَ ولَـحْنِك، وتَـجْعَلُ مِنْ نَفْسِكَ طَبِيْباً يُدَاوِي بِالوَعْظِ الرَّادِع، وأَنْتَ كَذَّابٌ فَاجِر، وتَتَعَالَى بِالمَدِيْحِ الكَاذِب، قَامَتْ عَلَيْكَ النَّوَائح، وتَـمْلأُ جَوَانِحَكَ بِالفِسْق، وتَـتَمَـادَى فِيْهِ يا مُـخْتَلَّ العَقْل، فيَا لَكَ مِنْ شَدِيْدِ البَلاءِ سَرِيْعِ الـخَطْوِ فِيْه، لا تَـرَكَ اللهُ ضِرْساً في فَمِك، هَلاّ أَدْسَمْتَنا وأَمْتَعْتَنا بِشِعْرٍ كَشِعْرِ أَبِي عِجَانَة، أَوْ كَشِعْرِ ابْنِ خِرِنْبَاعَ بَعِيْدِ المَكَانَة.



قَالَ الرَّاوِي: وأَبُو عِجَانَةَ شَاعِرٌ يَعْجِنُ الشِّعْرَ عَجْنا، فَلا يُدْرَى أَهوَ شِعْرٌ أَمْ نَظْمٌ أَمْ رُقْيَةُ عَقْرَب، واسْمُهُ: طَفْحَلَةُ بْنُ قَوْحَلَة، أَمَّا ابْنُ خِرِنْبَاعَ فَهوَ مِنْ شُعَـرَاءِ الجِنِّ الذِيْنَ أَدْرَكُوا سُلَيْمَانَ –عَلَيْهِ السَّلامُ– وعَصَوْه، واسْمُهُ قِرْبَاعُ بْنُ خِرِنْبَاعَ الدَّجُوْجِي، وقَدْ وُجِدَ لَهُ بَيْتَانِ نُحِتَا عَلَى قُمْقُمٍ عُثِرَ عَلَيْهِ في قَاعِ بَحْر، وهُمَا مِنْ أَوْضَحِ ما نَظَمَ بَعْدَ تَوْبَتِه، ويَقُوْلُ فِيْهِمَا:



عَصَيْتُ سُلَيْمَانَ النَّبِيَّ وهَا أَنَا *** بِقُمْقُمِهِ ثَاوٍ يُـحِيْطُ بِيَ القَاعُ



فَإنْ تَسْأَلُوا عَنِّي اتِّعَاظاً فَإنَّنِي *** أَنَا ابْنُ خِرِنْبَاعَ الدَّجُوْجِيُّ قِرْبَاعُ



يُنْظَرُ كِتَاب: «مَنْهَلُ الأَدِيْبِ الأَرِيْب، في الأَغَالِيْطِ والأَكَاذِيْب»، لِـمُؤَلِّفِه: ابْنِ سَلاّلِ الدَّجَّال، بَتَحْقِيْق: لاثِغِ بْنِ فَارِغ، ص: 214.









28 – «مُشَاكَاةُ المُعَلِّمَةِ المُعَلِّم»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ في الاثْنَيْنِ يَتَشَاكَيَان، وكِلاهُمَا عَلَيْهِ مِنَ العَنَاءِ عُنْوَان، والمُعَلِّمَةُ والمُعَلِّمُ في غِنىً عَنِ التَّعْرِيْف، لِـحَمْلِـهِمَا رِسَالَةَ الدِّيْنِ الـحَنِيْف، ولِعُلُوِّهِمَا في المَـرَاتِب، مَعَ قِلَّةِ الرَّاتِب، فأَسْأَلُ ذَا الإحْسَانِ والمِنَّة، أَنْ يَـجْعَلَ جَزَاءهُمَا الـجَنَّة.



وأَصْلُ المَثَلِ أنَّ زَوْجَيْنِ يَعْمَلانِ في التَّعْلِيْم، وهُمَا عَلَى هَذِهِ الـحَالِ مُنْذُ قَدِيْم، ومَرَّتْ بِـهِمَا السَّنَوَات، ولَـمْ تُـخَفَّفْ عَنْهُمَا المَشَقَّات، هُوَ نِصَابُهُ كَامِلٌ رَغْمَ طُوْلِ الـخِدْمَةِ والـخِبْرَة، وهيَ تَسْلُكُ إلى مَدْرَسَتِها النَّائيَةِ مَسَالِكَ وَعْرَة.



وكانَ لَـهُمَا جارٌ مُلاصِق، يَسْمَعُ مِنْهُمَا البَوَائق، وفي لَيْلَةٍ شَدِيْدَةِ الظَّلام، سَمِعَهُمَا يَتَـرَاشَقَانِ الكَلام، هُوَ يَقُوْلُ: أنا أَكْثَرُ مِنْكِ مَشَقَّة، فلا تَـزِيْدِي عَلَيَّ الشُّقَّة، ودَعِيْنِي الآنَ أَنَام، فعِنْدِي غَداً دَوَام، حَيْثُ سَأَمُرُّ عَلَى إدَارَةِ التَّعْلِيْم، وسَأُوَقِّعُ عَلَى مِئةِ تَعْمِيْم، لأنَّنِي زَجَرْتُ طَالِباً لَـمْ يَفْهَم، فسَدَّدَ لي لَكْمَةً في الفَم، وحِيْنَ جَذَبْتُهُ مِنْ شَعْرِه الوَفِيْر، إلى حَيْثُ مَكْتَبُ المُدِيْر، رُفِعَ فيَّ تَقْرِيْرٌ مُسْتَعْجَلٌ لِلْوَزَارَة، فما لَبِثُوا أنْ جَاؤوا في خَفَارَة، وأَخَذُوا عَلَيَّ تَعَهُّدا، أنْ آتِـيَـهُمْ غَدا، وأَنْ أُعِدَّ اعْتِذَاراً لِلطَّالِب، وأُقَـبِّلَ كَفَّ الضَّارِب.



وهيَ تَقُوْلُ لَهُ: أَهَذِهِ الشَّكَاة؟! أَنا كُلَّ يَوْمٍ تَضْرِبُنِي فَـتَاة، ولا شَكَاةَ لي مِنْ ذَلِك، شَكْوَاي مِنْ دَرْبِ المَهَالِك، أَخْرُجُ السَّاعَةَ الرَّابِعَة، وأَعُوْدُ لَيْلاً في السَّابِعَة، وأَهِيْمُ في الطُّرُقِ المَمْطُوْطَة، كَأَنَّنِي بِنْتُ بَطُّوْطَة، وكَمْ تَعَـرَّضْتُ لِـحَادِث، ومُعَاكَسَةِ عَابِث، وكَمْ فَارَقَتْ زَمِيْلاتي الـحَيَاة، وتَنَاثَـرْنَ أَشْلاءَ في الطُّـرُقَات، وطَالَـمَا نَجَوْتُ بإعْجَاز، وهَا أَنا أَمْشِـي عَلَى عُكَّاز.



وبَيْنَمَـا الـجَارُ إلَيْهِمَا يَسْتَمِع، إذْ خَفَتَ صَوْتُـهُمَا المُرْتَفِع، وأَدْرَكَ أنَّ مَـجْلِسَ خِصَامِهِمَا انْفَضّ، لَـمَّا سَقَطَ العُكَّازُ عَلَى الأَرْض، ثُمَّ تَـبَـيَّنَ مِنْهُما هُدُوْءَ النَّفْس، حِيْنَ سَمِعَ مَا يُشْبِهُ الـهَمْس، فانْصَرَفَ عَـمَّا كَانَ فِيْه، وأَنْشَأَ يُنْشِدُ مِلْءَ فِيْه:



حَـمَدْتُ اللهَ ربِّي إذْ هَدَاني *** غَدَاةَ عَلَى الدِّرَاسَةِ لَـمْ أُصَمِّمْ



قَنِعْتُ مِنَ (الكَفَاءةِ) بالأَمَانِي *** فَأَشْرَقَ في طَرِيْقِي كُلُّ مُظْلِمْ



لَدَيَّ تِـجَارةٌ أَصْبَحْتُ فِيْهَا *** عَظِيْمَ القَدْرِ لِلصَّفَقَاتِ أُبْرِمْ



فَكَمْ مِنْ جَامِعِيٍّ لَوْ رَآنِي *** يُبَادِئُ بِالسَّلامِ وَلا أُسَلِّمْ



ولَـمْ أَتْعَبْ لأُصْبِحَ جَامِعِيّاً *** فَذَلِكَ لا يُؤخِّرُ أَوْ يُقَدِّمْ



فَكَمْ بَعْدَ التَّخَرُّجِ مِنْ مَآسٍ *** وَإرْهَاقٍ لِمُعْدِمَةٍ وَمُعْدِمْ!



أَفي التَّعْلِيْمِ يَـبْـتَـنِـيَانِ جِيْلاً *** وَغَيْرُهُمَا لِـجِيْلِـهِمَا يُـهَدِّمْ؟!



مَعاً كَمْ يَلْقَيَانِ مِنَ الرَّزَايَا *** وَمِنْ عَنَتٍ ثَقِيْلِ الوَطْءِ مُؤْلِـمْ



وأَعْجَبُ مَا سَمِعْتُ مِنَ التَّشَاكِي *** مُشَاكَاةُ المُعَلِّمَةِ المُعَلِّمْ



هُمَا اثْنَانِ ارْتَـمَتْ بِـهِمَا حُظُوْظٌ *** وَشُدَّ عَلَيْهِمَا قَيْدٌ وَأُحْكِمْ



فَإنْ عَابَ امْرؤٌ جَهْلـِي فَإنِّي *** لِـهَذَا الـجَهْلِ مُـحْتَـرِمٌ مُعَظِّمْ



فَيَا ربِّي لَكَ الـحَمْدُ ابْتِدَاءً *** وَهَا أَنَذَا بِضَافِـي الـحَمْدِ أَخْتِمْ







29 – «وَلا انْسِلاخُ مُبْتَعَث»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ خَلَعَ عَـرَاقَـتَه، ولَبِسَ عَبَاءةً لَـمْ تَـكُنْ عَبَاءتَه، ومَشَى فِيْها يُبَاهِي بِاخْتِيَالِه، وتَنَاسَى مِشْيَةَ أَعْمَامِهِ وأَخْوَالِه، والمُبْتَعَثُ مَنْ فَارَقَ أَهْلَهُ ونَاسَه، واغْتَـرَبَ في البِلادِ لأَجْلِ الدِّرَاسَة، ثُمَّ عَادَ يَـهْجُو مُـجْتَمَعَهُ وبَلَدَه، ويَنْفُضُ مِنْ تَـخَلُّفِهِمَا يَدَه، وتَعَالَى عَلَيْهِمَا بِرَأْسٍ مُنْـتَفِخ، وذَلِكَ هُوَ المُبْتَعَثُ المُنْسَلِخ، وثَمَّةَ مُبْتَعَثٌ مَعْدِنُهُ ثَمِيْن، يَعُوْدُ إلى وَطَنِهِ مَرْفُوْعَ الـجَبِيْن، وقَدْ تَوَسَّعَتْ في الابْتِعَاثِ جِهَات، وأَتَاحَتْهُ في جَمِيْعِ التَّخَصُّصَات، فأَصْبَحَ نَوْعاً مِنَ التَّرْفِيْه، يَغْتَنِمُهُ الـحَصِيْفُ والسَّفِيْه، وأَعْجَبُ ما فِيْهِ مِنْ فَجِيْعَة، الابْتِعَاثُ لِدِرَاسَةِ الشَّرِيْعَة.



وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ رَجُلاً جَدَّ ودَأَب، وتَـخَصَّصَ في دِرَاسَةِ لُغَةِ العَـرَب، ولَـمَّا تَـخَرَّجَ عُيِّنَ في الصَّادِرِ والوَارِد، وبَقِيَ سِنِيْنَ عَلَى هَذا الـحَالِ الـجَامِد، وكَانَ لَهُ رَفِيْقُ دِرَاسَةٍ ودَرْب، ابْتَعَثَهُ أَبُوْهُ لِلدِّرَاسَةِ في الغَرْب، وعَادَ يَـحْمِلُ شَهَادَاتِه، في التَّخَصُّصِ ذَاتِه، فعَزَّاهُ رَاثِياً مَـجْهُوْدَهُ السَّالِف، وبَكَى عَلَى مُسْتَقْبَلِهِ في الوَظَائف، إذْ كَيْفَ سَتَعْتَرِفُ الـجِهَاتُ بِالقَادِم، وقَدْ تَعَلَّمَ لُغَةَ العَـرَبِ لَدَى الأَعَاجِم؟!، فهَزِئَ القَادِمُ بِمَخَاوِفِ الصَّدِيْق، وعَزَّاهُ عَلَى تَفْكِيْرِهِ الصَّفِيْق، ثُمَّ أَمْعَنَ في سُخْرِيَـتِه، وقَالَ لَهُ ضِمْنَ هَذْرَمَتِه:



(بْلِيْزْ) اسْتَمِعْ لِي (مَايْ دِيْرْ)، إذا كُنْتَ تَـرَى أَهَمِّـيَةَ التَّغْيِـيْر، واعْذُرْنِي إذا حَدَّثْتُكَ بِالأَجْنَبِي، لِـجَهْلـِي بِـبَعْضِ الكَلامِ العَـرَبِي، فأَنْتَ (شُوْرْ) تُدْرِكُ الأَبْعَاد، وتَعْلَمُ أَنَّ الوَضْعَ (بَادْ)، ومُشْكِلَـتُكَ أَنْتَ وأَمْثَالِكَ السُّذَّج، أَنَّكُمْ تَنْطَلِقُوْنَ مِنْ مَنْطِقٍ أَهْوَج، وتُؤَوِّلُوْنَ في فَضْلِكُمُ النُّصُوْص، وأَنْتُمْ حَفْنَةُ أَعْرَابٍ لُصُوْص، والمُحْزِنُ أَنَّكَ وأَشْبَاهَكَ كَثْرَة، وتَقِفُوْنَ في دَرْبِ التَّقَدُّمِ عَثْرَة، كَمَا أَنَّكُمْ سَطْحِيُّوْنَ بُؤَسَاء، وتُفَضِّلُوْنَ التَّخَلُّفَ والانْطِوَاء، أُولَئكَ يَسِيْرُوْنَ لِلأَمَامِ بِخَطْوٍ حَثِيْث، وأَنْتُمْ تُسَايِرُوْنَ لُغَةَ: أَكَلُوْهُ البَرَاغِيْث، وهُمْ يَضْرِبُوْنَ دَوْلَةً وأُخْرَى، وأَنْتُمْ زَيْدُكُمْ يَضْرِبُ عَمْرا، وهُمْ وَقَفُوا عَلَى تِقْنِـيَةِ الـجِيْنَات، وأَنْتُمْ تَقِفُوْنَ عَلَى أَطْلالِ المُعَلَّقَات، وهُمْ صَعَدُوا بِصَوَارِيْـخِهِمُ الأَقْـمَار، وأَنْتُمْ تُصَعِّدُوْنَ طَرَائقَ الاسْتِجْمَار، وهُمْ يَـخْتَلِفُوْنَ إلى مَيَادِيْنِ الأَبْحَاث، وأَنْتُمْ تَـخْتَلِفُوْنَ في قَضَايَا المِـيْرَاث، والآنَ (آيْ ثِنْكْ) حَانَتْ سَاعَةُ الانْتِفَاض، ونَشْلِ أَمْثَالِكَ المُنْدَثِرِيْنَ مِنَ الأَنْقَاض، وجَاءَ وَقْتُ أَمْثَالِي مِنَ التَّنْوِيْرِيِّـيْن، لِيُخْرِجُوْكُمْ مِنَ الضَّلالِ المُبِيْن، فمِنْ فَضْلِكَ (نَاوْ) (جُوْ أَوِيْ)، وابْتَعِدْ عَنِّي وعَنْ (مَايْ وِيْ)، فَلَدَيَّ مَـجْمُوْعَةُ خِيَارَات، مِنْ وَزَارَاتٍ ومُؤَسَّـسَات، وكُلُّها تُسَاوِمُنِي بِالرَّاتِبِ الكَبِيْر، لأَقْبَلَ لَدَيْـها وَظِيْفَةَ مُدِيْر، واقْبَعْ أَنْتَ في الأَرْشِيْف، وأَرِحْنِي مِنْ هَذْرِكَ السَّخِيْف.(1)



وحِيْنَئذٍ ضَرَبَ صَاحِبُنا كَفَّاً بِكَفّ، وكَتَمَ في أَحْشَائهِ الأَسَى والأَسَف، وتَـحَقَّقَ أَنَّ القَادِمَ غَيَّـرَ المَشَارِب، وأَنَّ انْتِـمَاءهُ حُلِقَ مَعَ الشَّارِب، ثُمَّ دَعَا اللهَ أَنْ يَـحْفَظَ الدِّيْنَ والوَطَن، مِـمَّا يَبُـثُّـهُ أَمْثَالُ هَذا القَادِمِ مِنْ عَفَن.



ولَـمَّا فَـرَغَ مِنْ دُعائهِ السَّالِف، وجَـمَدَ دَمْعُ عَيْنَيْهِ الوَاكِف، أَقْسَمَ أَنْ يَنْظِمَ فِيْهِ الدُّرَر، عَلَى بَحْرٍ جَدِيْدٍ مُبْتَـكَر، يَأْسِرُ بِعُذُوْبَةِ إيْقَاعِهِ الآذَان، ويُصْبِحُ السَّابِـعَ عَشَرَ في الأَوْزَان، وأَنْ يُغْرِقَ المُنْسَلِخَ القَادِم، في عُبَابِ بَحْرِهِ المُتَلاطِم، لِيَكُوْنَ عِبْرَةً لِكُلِّ مُبْتَعَثٍ دَالِه، ولِكُلِّ أَمْلَطِ الوَجْهِ مِنْ أَمْثَالِه، مِنْ ذَوِي الفِكْرِ المُهَجَّنِ المُـتَّسِخ، ورَأَى أَنْ يُسَمِّيَهُ البَحْرَ المُنْسَلِخ، وذَلِكَ لانْسِلاخِهِ عَنْ دَوَائرِ الـخَلِيْل، ولِـمُطَابَقَةِ الاسْمِ لِصِفَةِ ذَلِكَ الدَّخِيْل، وضَبَطَ إيْقَاعَهُ العَذْبَ المُنْسَاب، بِـهَذا الضَّابِطِ الظَّرِيْفِ العُجَاب:، «سَلَخُوا أَوْزَانَ الـخَلِيْلِ لا فَلَـتُوا، فَاعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُفَاعَلَتُ»، وكَانَ مِـمَّا انْتَظَمَ بِهِ السِّلْك، قَوْلُهُ في قَصِيْدَتِهِ تِلْك:



يَا شَقَاءَ الأَيَّامِ حِيْنَ يَغْنَمُهَا *** خَامِلٌ لَـمْ يَكُنْ لِقَدْرِهِ ثَمَنُ



مَنْ رَأَى مِنْهُ مَا رَأَيْتُهُ ذَرَفَتْ *** عَيْنُهُ دَمْعَهَا، وَعَادَهُ الشَّجَنُ



كَانَ قَبْلَ ابْتِعَاثِهِ أَخَا تَـرَفٍ *** يُفْصِحُ العِيُّ عَنْ حِجَاهُ وَالسِّمَنُ



يَسْحَبُ الذَّيْلَ لاهِياً وَلا حَسَبٌ *** فَهْوَ كَالثَّدْيِ وَارِماً وَلا لَبَنُ



بَعُدَتْ عَنْهُ غَايَةٌ مُيَسَّرَةٌ *** حَالَ مَا بَيْنَـهَا وَبَيْنَهُ الوَهَنُ



وَرَمَتْهُ الفِجَاجُ عَنْ مَنَاكِبِهَا *** وَاشْتَـكَى نَتْنَهُ الكَنِيْفُ وَالعَفَنُ



فَاعْجَبُوا مِـمَّنْ هَذِهِ بَوَادِرُهُ *** حِيْنَ يُزْرِي بِإرْثِهِ وَيَمْتَهِنُ!



لَـمْ يُطِقْ تَـحْقِيْقَ الطُّمُوْحِ في وَطَنٍ *** هُوَ لِلصَّابِرِيْنَ كُلِّهِمْ وَطَنُ



فَغَدَاةَ ارْتَأَى أَبُوْهُ خَيْبَتَهُ *** وَتَـمَادَى بِهِ عَلَى ابْنِهِ الـحَزَنُ




سَاقَهُ –مِنْ عَنَائهِ– إلى جِهَةٍ *** يَـخْدَعُ النَّاظِرِيْنَ وَجْهُهَا الـحَسَنُ



فَمَضَتْ أَشْهُرٌ وَعَادَ مُلْتَحِفاً *** بِالشَّهَادَاتِ.. لَيْتَ أَنَّـهَا كَفَنُ



مَلَطَ الوَجْهَ كُلَّهُ، وَأَبْرَزَهَا *** سِحْنَةً كَمْ تَـحْلُوْ لِقُبْحِهَا السِّحَنُ



شَاهَ وَجْهٌ أُزِيْلَ عَنْهُ شَارِبُهُ *** فَبَدَا عَوْرَةً، وَكُلُّكُمْ فَطِنُ



وَامْتَطَاهُ الأَعَاجِمُ الأُلَى جَعَلُوا *** مِنْهُ بَغْلاً مُرَوَّضاً لَهُ رَسَنُ



أَمَّهُمْ يَدْرُسُ الفَصِيْحَ وَا عَجِبِي! *** فَأَتَانَا مُرَاطِناً بِمَا رَطَنوا!



وَانْثَـنَى يَزْدَرِي تُـرَاثَهُ بِفَمٍ *** أُشْهِدُ اللهَ أَنَّهُ فَمٌ نَتِنُ



هَالَهُ مَا رَآهُ مِنْ زَخَارِفِهِمْ *** وَأَرَاعَتْهُ بِاخْضِرَارِهَا الدِّمَنُ



خَلَبَتْ لُبَّهُ القُشُوْرُ، فَانْبَهَرَتْ *** مُقْلَةٌ مِنْهُ، ثُمَّ أَنْصَتَتْ أُذُنُ



وَيْلَهُ عَادَ يَوْمَ عَادَ مُنْسَلِخاً *** لا جُذُوْرٌ يُنْمَى لَـهَا وَلا فَنَنُ



فَالمَـنَايَا وَلا انْسِلاخُ مُبْتَعَثٍ *** كَمْ تَـمَنَّى فِرَاقَ رُوْحِهِ البَدَنُ





-------



(1) تَرْجَمَةُ ما بَيْنَ الأَقْوَاس:



(بْلِيْزْ/ please): إنْ سَمَحْتَ، (مَايْ دِيْرْ/ my dear): عَزِيْزِي، (شُوْرْ/ sure): بِالتَّأْكِيْد، (بَادْ/ bad): سَـيِّء، (آيْ ثِنْكْ/ I think): أَظُنّ، (نَاوْ/ now): الآن، (جُوْ أَوِيْ/ go away): اغْرُبْ عَنْ وَجْهِي، (مَايْ وِيْ/ my way): طَرِيْقِي.



قَالَ الرَّوِاي: وقَدْ رَطَنَ المُنْسَلِخُ بِكَلامٍ آخَرَ ظَاهِرُهُ العُجْمَة، فسَأَلْتُ عَنْ مَعْنَاهُ أَهْلَ الاخْتِصَاص، فلَمْ يَعْرِفُوا لَهُ تَرْجَمَة.







30 – «يَعِيْبُ النَّاسَ مَوْفُوْرُ العُيُوْب»



وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ شَتَمَ وآذَى، ورَاحَ يَـهْجُو ذَاكَ ويُعَرِّضُ بِـهَذا، وهوَ في مُـحِيْطَاتِ عُيُوْبِهِ غَارِق، ومَسَاوِئُهُ تَسُدُّ المَغَارِبَ والمَشَارِق، ومَوْفُوْرُ العُيُوْبِ مَنِ امْتَلأَ بِالـخَطَايَا، فغَفَلَ عَنْهَا ورَاقَبَ عُيُوْبَ البَرَايَا.



وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ شَابّاً أَحَبَّ الأَدَب، وآتَاهُ اللهُ في الشِّعْرِ والنَّثْرِ ما أَحَبّ، فكَانَ كُلَّـمَا نَظَمَ قَصِيْدَة، أَوْ خَصَّ بِمَقَالاتِهِ جَرِيْدَة، لَـمْ يُسْمَعْ لَهُ ولَـمْ يُقْرَأ، وبِالإعْرَاضِ والتَّثْبِيْطِ يُفْجَأ، وكَانَ عَلَى ثِقَتِهِ بِمَا أَبْدَع، يَسْمَعُ لآخَرِيْنَ طُبُوْلاً تُقْرَع، وحِيْنَ يُفَتِّشُ في بَعْضِهَا عَنْ سَمِيْن، لا يَـجِدُ إلاّ جَعْجَعَةً ولا طَحِيْن، وكَانَ أَكْثَرَ ما أَثَارَ حَفِيْظَـتَه، وأَعْلَمَهُ قِيْمَةَ أَدَبِهِ وقِيْمَتَه، احْتِفَاءُ النَّاسِ بِالسَّاقِطِ والسَّاقِطَة، مَتَى تَقَيَّآ الرِّوَايَاتِ الـهَابِطَة، مَعَ خُلُوِّهَا مِنَ الإبْدَاعِ والإحْكَام، وعَزْفِهَا عَلَى وَتَرِ الـجِنْسِ والـحَرَام، وزَادَ غَبْنَهُ حِوَارٌ قَرَأَهُ في صَحِيْفَة، مَعَ سَاقِطَةٍ تُسَوِّقُ رِوَايَتَها السَّخِيْفَة، وتَزْعُمُ مِنْ فَرْطِ وَقَاحَتِهَا المُـتَنَاهِيَة، أَنَّـها تَدْعُو إلى الأَخْلاقِ السَّامِيَة، وأَنَّـها تُـجَرِّدُ الوَاقِعَ بِمَا فِيْه، لِيَسْهُلَ عِلاجُهُ عَلَى مُدَاوِيْه، وأَنَّـها بِكِتَابَةِ هَذْيِـهَا مُشْفِقَة، وكَمَنْ يُقَدِّمُ لِلْمُجْتَمَعِ صَدَقَة، وهوَ يَعْلَمُ عَنْها أَيَّامَ غَوَايَتِه، مَا تُـنَـزَّهُ الأَسْمَاعُ عَنْ رِوَايَتِه، فَكَمْ وَدَّ لَوْ أَنْ صَاحَ في وَجْهِهَا: ارْفُقِي، لَكِ الوَيْلُ لا تَـهْذِي وَلا تَـتَصَدَّقِي.



فلَـمَّا رَأَى صَاحِبُنا ضَيْعَةَ الأَدَب، وانْصِرَافَ النَّاسِ إلى (قِلَّةِ الأَدَب)، رَغِبَ أَنْ يُعِيْدَهُمْ إلى حِيَاضِه، وأَنْ يَـجْنِـيَهُمْ مِنْ أَزَاهِيْرِ رِيَاضِه، فمَزَجَ مَعَ رَغْبَتِهِ تِلْكَ سُخْطَهُ السَّالِف، وجَمَعَ بِيْنَ السُّخْرِيَةِ والأَدَبِ الـهَادِف، وصَاغَ لَـهُمْ جُمْلَةً مِنَ الأَحَادِيْث، وصَبَّها في قَالَبٍ تُرَاثِيٍّ حَدِيْث، وأَخَذَ مِنَ الـحُسْنَـيَـيْنِ المَحَاسِن، لِتَسْهُلَ عَلَى الفَصِيْحِ واللاّحِن، واخْتَلَقَ في بِدَايَاتِـها الأَمْثَال، وجَنَّحَ في تَفَاصِيْلِها بِالـخَيَال، وزَخْرَفَ طَيَّاتِـها بِالنَّثْرِ المَسْجُوْع، ووَشَّى نَسْجَها بِالشِّعْرِ المَطْبُوْع، فحِيْناً يَنْظُـرُ إلى الوَاقِعِ ويُـحَاذِيْه، وفي أَحْيَانٍ أُخْرَى يُبَالِغُ فِيْه، والعَارِفُ بِمَقَاصِدِ الأَدَبِ وشُجُوْنِه، يُدْرِكُ أَنَّ التَّهْوِيْلَ أَعْذَبُ فُنُوْنِه.



وكَانَ يَأْمُلُ أَنْ يَـحْظَى عَمَلُهُ بِالقَبُوْل، وأَنْ يَـخْلُصَ مِنْ قَلَمِ العَاتِبِ والـجَهُوْل، فبَيَّنَ أَنَّهُ حِيْنَمَـا اجْتَـرَأ، لَـمْ يُنَـزِّهْ نَفْسَهُ عَنِ الـخَطَأ، ومَا هُوَ إلاّ عُضْوٌ في جَسَد، وطَالَـمَا وَقَعَ فِيْما انْتَقَد، وعَابَ قَوْماً بِـبَعْضِ ما فِيْه، وقَلَّدَ الـحُطَيْئَةَ في قَوَافِيْه، ولِذا أَوْدَعَ عَمَلَهُ هَذا الإيْضَاح، والْتَمَسَ مِنْ مُسِيْئِي فَهْمِهِ السَّمَاح، وسَأَلَ اللهَ أَنْ يَغْفِرَ ذُنُوْبَه، وأَنْ يُنِيْرَ بِالـهِدَايَةِ دُرُوْبَه، ثُمَّ لَـجَّ في الاسْتِغْفَار، وأَنْشَدَ ودَمْعُهُ مِدْرَار:



إلَـهِي جَلَّ مِنِّي الـخِزْيُ فَاغْفِرْ *** لِلاَهٍ في مَـخَازِيْهِ لَعُوْبِ



دَعَوْتَ المُسْرِفِيْنَ: عِبَادِيَ ادْعُوا *** أُجِبْكُمْ، فَاسْتَجِبْ لي وَامْحُ حُوْبي



فَمَنْ لِي إنْ سَخِطْتَ سِوَاكَ رَبِّي *** وَقَدْ ضَاقَتْ بِخُطْوَاتِي دُرُوْبي؟



وَتَدْرِي أَنَّنِي عَاصٍ، وَأَدْرِي *** بِأَنَّكَ أَنْتَ غَفَّارُ الذُّنُوْبِ



وَهَذِي أَدْمُعِي سَحَّتْ رَجَاءً *** وَتُوْشِكُ أَنْ تَكُفَّ مِنَ النُّضُوْبِ



وَوَجْهِي اصْفَـرَّ خَشْيَةَ مَا سَيَلْقَى *** وهَا هُوَ سَاهِمٌ بَادِي الشُّحُوْبِ



أُقِرُّ بِأَنَّنِي عَاصٍ، وَعِنْدِي *** مِنَ الزَّلاَّتِ مُـخْتَلِفُ الضُّرُوْبِ



وَأَقْبَحُ مَا لَدَيَّ مِنَ الـخَطَايَا *** مُبَادَأَتِي عِبَادَكَ بِالـحُرُوْبِ



أُهَاجِي ذَاكَ، ثُمَّ أَذُمُّ هَذَا *** وَأَرْمِي غَافِلاً مِنْهُمْ بِطُوْبي



وَأَبْحَثُ عَنْ عُيُوْبِهُمُ، وَعَيْبِي *** أَحَقُّ بِـبَحْثِ مَغْرُوْرٍ كَذُوْبِ



وَمَا مَيَّزْتَنِي عَنْهُمْ، وَلَكِنْ *** يَعِيْبُ النَّاسَ مَوْفُوْرُ العُيُوْبِ



فَيَا مَوْلاَيَ بَلِّغْنِي رَشَادِي *** وَيَا نَـفْسِـي إلى مَوْلاَكِ تُوْبي



«سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ،

أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاّ أَنْتَ،

أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوْبُ إلَيْكَ».

















Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2022, Jelsoft Enterprises Ltd.
Search Engine Optimization by vBSEO ©2011, Crawlability, Inc.
جميع الحقوق محفوظة لموقع ومنتديات الدولي ElDwly.com
جميع المواد المنشورة بمنتديات الدولي تُعبر عن وجهة نظر كاتبها فقط.